Skip to main content
"دب" برلين لـ"شيطان" رسول أف: المجتمع الإيراني سينمائياً
محمد هاشم عبد السلام ــ برلين
رسول أف بعيداً عن البرليناله: الدبّ الذهبي (أندرياس رانتز/Getty)
اختَتَمتْ الدورة الـ70 لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، المُقامة بين 20 فبراير/ شباط و1 مارس/ آذار 2020، مسابقتَها الرسمية بعرض "لا يوجد شرّ" ("لا يوجد شيطان"، وفقاً للعنوان الأصلي) للإيرانيّ محمد روسول أف (1972). الفيلم من المفاجآت السارّة القليلة في دورة هذا العام. اعتُبر خير ختام لمسابقةٍ، تنافس فيها 18 فيلماً. بعد عرضه مباشرة، رُشِّحَ للفوز بإحدى الجوائز، وهذا ما حصل، إذْ فاز بـ"الدبّ الذهبي". بهذه الجائزة، ازداد عدد المخرجين الإيرانيين الفائزين بها في العقد الأخير من تاريخ المهرجان، بعد أنْ نالها أصغر فرهادي عن "انفصال" (2011)، وجعفر بناهي عن "تاكسي" (2015).

"لا يوجد شرّ" سابع فيلم روائي طويل لرسول أف، الذي تكرّست شهرته قبل أعوام، بحصوله على جوائز مهرجانات دولية مرموقة، آخرها جائزة "نظرة خاصة" عن "رجل نزيه"، في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لـ"مهرجان "كانّ" السينمائي الدولي". لكن، فور عودته من "كانّ" ذاك العام، حُكم عليه بالسجن عاماً واحداً، وحُرِم من صناعة الأفلام مدى الحياة، ومُنع من السفر، بتهمة "تهديد الأمن القومي". لذا، لم يكن موجوداً في برلين مع فيلمه الأخير هذا.

في ظلّ قيود وأحكام قضائية صارمة، يُطرح سؤال: كيف صنع رسول أف فيلمه الأخير هذا؟ وكيف وصل إلى مهرجان برلين؟ عبقريته أهدته إلى طريقة تحايل على القيود والرقابة والقانون. فنياً، التصوير الداخلي غالبٌ طول الوقت. لكن، ماذا عمّا جرى فعلياً؟ هل ستَعتبر الدولة الأمر تحدّيا صارخا لها ولقوانينها، أم سيمرّ كما مرّ غيره سابقاً؟ لا إجابات شافية.



جديد محمد رسول أف لا يختلف كثيراً عن أفلامٍ سابقة له تطرح قضايا، وتفجّر أسئلة شائكة، تشتبك مع المجتمع الإيراني، وتركيبته المعقّدة، ونسيجه المحصور بين السياسة والدين. أجيال شابّة تتطلّع نحو المستقبل وترفض الراهن، وأخرى تكرّس السائد وتأبى التغيير وتتشبثّ بالماضي. لذا، يظهر الإيراني، المنتمي إلى الطبقة الوسطى بمقوّماتها كلّها، في قلب أفلامه، السياسية والاجتماعية والذاتية. وكغيره من المخرجين الإيرانيين، يضرب بقسوة في أعماق الفاسد والمتكلّس في المنظومة السياسية والمجتمع الإيرانيين، كما في سلوكيات الأفراد، مانحاً قضاياه أبعاداً تمسّ بشراً كثيرين، داخل إيران وخارجها.

في "لا يوجد شرّ"، ينطلق محمد رسول أف من قضية محلية، تتعلّق بنقاشٍ حول عقوبة الإعدام، بجوانبها المختلفة. القضية هذه غير مطروحة في دول ومجتمعات كثيرة، لكن ذكاء رسول أف كسيناريست يتجلّى في أنسنة طرحه، ما يجعله يمسّ كثيرين، رغم خصوصية الطرح، لا سيما أنّه لم يتطرّق نهائياً إلى أمر المحكوم عليهم بالإعدام، بل إلى منفّذيه، وتحديداً حياتهم وحياة المقرّبين منهم. يُثير الفيلم أيضاً أسئلة أخلاقية ووجودية، مع وجود أيّ إنسان آخر في المواقف نفسها لأبطال الفيلم.

ينقسم "لا يوجد شرّ" إلى 4 أجزاء منفصلة، تبدو كأفلام قصيرة، بعناوين خاصة بها: لا يوجد شيطان، قالت: "يمكنك القيام بالأمر"، عيد ميلاد، قبّلني. مع تتابعها، يتّضح الخيط الأساسي الذي يجمعها معاً، وموهبة رسول أف، المتدفّقة مع كلّ فيلم جديد يكتب له السيناريو. في الأجزاء الأربعة تلك، يختلف الطرح، وتتباين المعالجة. لكن تفاوت أداء الممثلين، وإيقاع مَشَاهد كثيرة، وقوّة كلّ جزء مقارنة بآخر، لم تضعف الفيلم ولم تقلّل من قيمته، لكنها حالت دون أن يكون تحفة سينمائية متكاملة العناصر.

أحداث الجزء الأول متعلّقة بحشمت (إحسان ميرهوسيني)، ربّ أسرة في منتصف العمر، وموظف حكومي. لا شيء استثنائيا في حياته اليومية. رجل بالغ الطيبة والرقّة والهدوء. يُراعي والدته المريضة، ويُلبّي احتياجاتها كلّها. يُعامِل طفلته بمنتهى الحنو. يناقش زوجته بلطفٍ، عن لون صبغة شعرها، الذي يصبغه لها في المنزل. كلّ هذا وغيره ينتهي مع دقّة المنبّه عند الثالثة فجراً، إذْ يستيقظ كي يذهب إلى عمله. ورغم اقتصار مهمّته على كبسة زر، فإنّ الكبسة هذه تزهق أرواح العشرات دفعة واحدة. ورغم سهولتها، تنغّص عليه حياته. ورغم أنه لم يشتك، يبدو الكبت والتوتر ملازمين له. لكن، إلى متى؟

بويا (كاوه أنجار)، شاب مجنّد حديثاً. يُدرك أنّ حياته وسفره وعمله ومستقبله رهنٌ بتأديته الخدمة العسكرية عامين متتاليين، وأنّ خدمته تتمثّل في تنفيذ أحكام الإعدام رمياً بالرصاص. يرفض الأمر، فهو يأبى التسبّب يوماً في قتل إنسان. إنّه نقيض حشمت المتمرّس، فهو شديد العصبية والتوتر والقلق والخوف. يدور بينه وبين رفاقه كلام عن الأمر. في النهاية، وبدافع من خطيبته المساندة لموقفه الأخلاقي، ينجح، رغم جبنه، في سرقة بندقية، وتهديد الجميع، والهرب وإنْ بصعوبة من المعسكر، منطلقاً مع حبيبته في مشهد ليلي في الطرقات الجبيلة لطهران، وهما يغنّيان ويرقصان بمنتهى السعادة.

في الجزء الثالث، هناك جواد (محمد فاليزاديجان)، نقيض بويا. متمرّس في تنفيذ أحكام الإعدام أثناء خدمته العسكرية، لكنّه غير متصالح مع الأمر نهائياً، كما يبدو. قبل عودته إلى قريته ومنزل حبيبته نانا (مهتاب سيرفاتي)، يخلع ملابسه العسكرية، ويستحم طويلاً في النهر، ثم يتعطّر، كمن يتخلّص من دنسٍ. يُسرع كي يصل في الوقت المحدّد لعيد ميلاد نانا. ثم يُفاجئ والديها بطلبه الزواج بها، فيرحبان بهذا بفرح بالغ. لكن الحبيبة تنبذه بقسوة، بعد إعلامه إياها بما فعله من دون قصد مع أقرب الناس إليها.

من ألمانيا، تعود الشابة داريا (باران رسول أف) إلى بلدها لزيارة عمها بهرام (محمد صديقيمهر). بلد لا تذكره كثيراً. تستغرب إلحاح والدها على ضرورة زيارة عمّها. هناك أمر خطر يُفترض بعمها أن يطلعها عليه قبل وفاته الوشيكة: عن عمله أو زواجه السابق. العلاقة بينهما تتطوّر، ما يدعو الفتاة في النهاية إلى النفور من عمّها، والاتصال بوالدها راغبة في العودة من دون معرفة أي شيء. لكن، بعد تردّد طويل، تعلم داريا الحقيقة، فتصرّ على العودة من دون منحه قبلة وداع أخيرة.