غابت هذه الوقائع التاريخية وغيرها عن
سلطة التعليم في مصر، كما عن ذهن كاتب ومفكر كبير (هكذا يصفونه) هو يوسف زيدان الذي أبدى في ندوة تلفزيونية، أخيرا، حماسا غير معهود في شتم صلاح الدين، ووصفه بأنه "من أحقر الشخصيات في التاريخ الإسلامي"، ونصب من نفسه حاكما ليقرّر وبحسم "أن صلاح الدين ارتكب جرائم ضد الإنسانية، عزل الرجال عن النساء، فانقطع نسل الفاطميين في مصر بعد توليه الحكم، وأحرق مكتبة القصر الكبير لدواعي محاربة الفكر الشيعي.. وهو لم يحرّر
القدس، بل عقد صلحا مع الصليبيين، بعد حروب انتقاما لشقيقته فقط"!
أطلق "المفكر الكبير" هذه الكومة من البذاءات من دون تمحيص أو تدقيق، وحتى من دون أن يتبادر إلى ذهنه أنه يتحدّث في التلفزيون الذي تشاهده عادة جمهرة واسعة من المتلقين، وليته عفّ فكفّ عن ذلك، إذ كان في وسعه مناقشة روايات التاريخ بأسلوب رفيع ونزيه. لكن، يبدو أن وراء بذاءاته هذه العقدة نفسها التي حملت سلطة التعليم في بلاده على أن تكون ملكية أكثر من الملك، وأن تعمد إلى حذف فصول كاملة عن صلاح الدين من المناهج الدراسية قبل عام، وكذا في واقعةٍ مماثلةٍ سابقة في زمن الرئيس المخلوع حسني مبارك، عندما أقدمت هذه السلطة نفسها على تنحية مادة "التاريخ العربي والإسلامي" من مناهج الدراسة الأولية والثانوية جانبا، واعتبرتها مادة اختيارية في اطار الاستجابة لدعوة الولايات المتحدة الحكومات العربية في أعقاب "11 سبتمبر" إلى إعادة النظر في المناهج الدراسية، معتبرة التركيز على الشخصيات والرموز التاريخية العربية والإسلامية تحريضا على العنف ولإثارة الكراهية ضد أميركا والغرب، وتم التراجع عن هذا الإجراء نتيجة الضجة التي حدثت إثر ذلك.
وأيضا، وبالمنحى نفسه، طلب الأميركيون من الحكومات الإسلامية مرة حذف آيات كاملة من القرآن الكريم، بحجة أنها تسيء لليهود، وتحرّض على كراهيتهم، وقيل إن دولة
عربية واحدة على الأقل التزمت بهذا "التوجيه"! ماذا لو أن بلدا عربيا واحدا عامل الغرب بالمنطق نفسه، وماذا لو اعتبرنا الرئيس
الأميركي الأسبق، جورج بوش، مثلا "شخصا غير مرغوب فيه"، وهو الذي وصف حروبه علينا بأنها "امتداد للحروب الصليبية"، وزعم أن غزوه
العراق استجابة لرسالة إلهية، وفي حينه صمت الحكام العرب عن أن يقولوا إن حروب بوش تثير الأحقاد، وتؤجج العنف والكراهية!
نذكّر "المفكر الكبير" يوسف زيدان بما قاله أندريه مالرو "لا شيء يثبت وجود الأبالسة على الأرض. ولكن، ما من شيء أيضا يثبت غيابهم، لذلك تتم الاستعانة بهم واستدعاؤهم عندما تشعر القوى الشريرة بالحاجة لهم"، ونتمنى له بصدق ألا يكون واحدا من هؤلاء.