أنس الشريف... في رثاء حارس الحقيقة
ليلة أخرى من ليالي غزّة التي أثخنتها الجراح منذ عامين، ليلة اختلفت عمّا سلفها بأننا أضعنا فتانا. وأيّ فتىً أضعنا؟
إنّه أنس الشريف الذي ارتقى شهيدًا برصاص الاحتلال الذي اعتاد أن يحطّم الكاميرات كلّما يفشل في التصدّي لبنادق الحريّة. أنس، الذي لم يحمل إلا صوته ويقف أمام الكاميرا لنقل الحقيقة، اغتيل هو وزميله محمد قريقع، كما اغتيل قبلهما المئات من الصحافيين الفلسطينيين وعشرات الآلاف من المدنيين العُزّل، تاركين وراءهم ملايين المُعذّبين تحت القصف والحصار، بينما يقف العالم مُتفرّجًا بصمت مخزٍ، وبعضه ما زال بكلّ وقاحة يُبارك أو يبرّر.
كان أنس يعرف أنّ الكلمة في فلسطين قد تُكلّفك حياتك، وأنّ نقل الخبر قد يتحوّل إلى تهمة عقوبتها الإعدام الميداني. ومع ذلك، لم يتراجع. ظلّ حارسا للحقيقة، صامدا أمام رصاص الاحتلال، ومقاوما لحملات التحريض التي شنّتها حتى بعض الأبواق العربية المُتصهينة، تلك التي لم تتوانَ عن مهاجمته في حياته، قبل أن تتباكى عليه في مماته بدموع التماسيح الكاذبة.
استهداف أنس ومحمد ليس حادثًا منفصلًا، بل جزء من سياسة مُمنهجة لقمع حرّية التعبير، وخنق الكلمة المقاومة، وإرهاب الصحافيين الفلسطينيين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف التي تفرض حماية المدنيين والصحافيين، باعتبارهم شهودًا على الحقيقة، لا أطرافًا في القتال. لكن الاحتلال الإسرائيلي، المدعوم عسكريًا وسياسيًا من دول غربية، جعل من الصحافي هدفًا مشروعًا، ومن الكاميرا سلاحًا يجب تدميره، تمامًا كما فعل مع شيرين أبو عاقلة، وعلي نسمان، وسميح النادي، وإيمان العقيلي، وعبدالرحمن العبادلة، ونور قنديل، وإسماعيل الغول، ورامي ليفي ومئات الصحافيين الفلسطينيين الذين قُتلوا بدمٍ بارد أثناء أداء واجبهم المهني، وسط إفلات تام من العقاب.
استهداف أنس ومحمد ليس حادثًا منفصلًا، بل جزء من سياسة مُمنهجة لقمع حرّية التعبير، وخنق الكلمة المقاومة، وإرهاب الصحفيين الفلسطينيين
في الحروب وأثناء العدوان وارتكاب جرائم الحرب والإبادة، يمثّل الصحافيون خطّ الدفاع الأخير عن الذاكرة الجماعية، وعيون العالم على المأساة. لكن تحت الاحتلال، يتحوّل عملهم إلى معركة يومية مع الخطر، ليس فقط بسبب الرصاص والقصف، بل أيضًا بفعل حملات التشويه، والتهميش المُتعمّد في الإعلام الغربي الذي ينتقي رواياته بما يخدم السردية الأقوى نفوذًا، ويتآمر على إسكات الصوت الفلسطيني أو تحريفه.
أنس لم يكن مجرّد صحافي، كان ابنًا وزوجًا وأبًا وأخًا وصديقًا ومناضلًا. كان نموذجًا للإنسان الفلسطيني العادي الذي يغرس قدميه في أرضه رغم الحصار والموت، ويحمل همّ شعبه فوق كتفيه، الشعب الذي احتفل بأنس وحمله فوق الأكتاف في يومٍ من الأيّام. كلّ ما طلبه، كما طلبه جميع الشهداء من قبله والملايين من أبناء شعبه، هو الحريّة وحقّ الحياة، لا أكثر، ولم يتوقّف لأنه آمن بأنّ التوقّف خيانة والصمت جريمة.
ارتقى أنس، لكن الحقيقة التي حملها وحرسها وفداها في النهاية بروحه ستبقى شاهدة، وروايته التي وثّقها بالصوت والصورة ستظلّ مفتوحة في وجه التاريخ، لتروي أنّ في غزّة كان هناك رجال ونساء وقفوا بين الحقيقة والموت، فاختاروا الحقيقة، ودفعوا حياتهم ثمنًا لها.
ارتقى أنس كما ارتقى قبله مئات الصحافيين الذين حوّلتهم كاميراتهم وأقلامهم وكلماتهم إلى أهداف. لكن ارتقاءه شهيدًا ليس نهاية الحكاية، بل شهادة أخرى تُضاف إلى السجل الأسود للاحتلال وداعميه وأذنابه. سيبقى ذلك الصوت الذي عرفناه جميعًا يتردّد في كلّ تقرير يُنقل من غزّة، وفي كلّ صرخة تُسمع تحت الركام، لأنّ الحقيقة التي دافع عنها أنس ورفاقه بدمائهم لا تموت، بل تنبعث كالعنقاء من بين الرماد لتُحرّك الضمائر، وتتحوّل وقودًا لإرادة لن تنكسر.
غزّة تودّعك يا أنس أنت ومحمد وجميع الرفاق، لكنّها لن تنساكم. فأنتم، مثل كلّ شهداء الكلمة والصورة، صرتم جزءًا من قضية أكبر من رصاصة، وأعتى من محو. قصّتكم ستُروى للأجيال القادمة، كما رَويتَ أنت قصة غزة للعالم. ورغم أنّ رصاص الغدر حاول إسكات الحقيقة، فإنّ صرخة غزة وصرختك باقية مدوية والاحتلال إلى زوال. رحم الله أنس ومحمد وجميع الشهداء وتقبّلهم في عليين.