إعلام "المصارف" اللبنانية!

01 ابريل 2025   |  آخر تحديث: 21:39 (توقيت القدس)
+ الخط -

بينما كانت الكواليس السياسية والمالية والمصرفية في لبنان منشغلة بحسم ملف تعيين حاكم مصرف لبنان الجديد، والذي جاء نتيجة ضغوط مارستها جهات عدّة من بينها رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون بالتعاون مع مصرفيين كالمصرفي أنطون صحناوي، ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، وبخلاف رغبة رئيس الوزراء نواف سلام، كانت هناك معركة أخرى تدور في العلن. هذه المعركة، التي أقل ما يمكن وصفها باللا أخلاقية، تقودها بعض الوسائل والمنصّات الإعلامية بهدف التحريض على منصّات إعلامية أخرى كانت رائدة في مواجهة الفساد وكشف الحقائق.

كما هو الحال مع كل حزب سياسي في لبنان الذي يمتلك منصّاته الإعلامية الخاصة التي تهلل له وتدافع عنه، فإن "حزب المصارف" يتمتع بحصة الأسد من الإعلام اللبناني. على سبيل المثال، المصرفي أنطون صحناوي، رئيس مجلس إدارة SGBL، أحد أبرز الشخصيات في هذا المجال، يستخدم نفوذه الإعلامي عبر تمويله الضخم للإعلام للدفاع عن مصالحه الشخصية ومهاجمة الأصوات المستقلة التي تسلط الضوء على شبهات الفساد.

بصفتي صحافية لبنانية، دخلت هذا المعترك إيماناً مني بأن الصحافة هي مهنة الدفاع عن حقوق الإنسان وكشف الفساد من أجل المصلحة العامة ورفع الوعي المجتمعي. لكنني سرعان ما اكتشفت أن الكثير من زملاء المهنة لا يشاركوننا هذه الأهداف. لذلك أجد الجانب الإيجابي في هذه المعركة الإعلامية أنها أسقطت الأقنعة عن وجوه الكثير من "صحافيي المصارف"، الجدد بشكلٍ خاص، ممن يدّعون النزاهة والموضوعية بينما هم في الحقيقة أدوات ترويج لمصالح المصارف وأصحاب النفوذ.

شكاوى قضائية ضد الإعلام المستقل

في سياق الهجوم على الإعلام المستقل، ادعى المصرفي أنطون صحناوي مرتين ضد موقع "درج" بعد نشر تحقيق يكشف عن قيامه بكسر وديعة قيمتها 254 مليار ليرة لبنانية (169 مليون دولار حينها) قبل موعد استحقاقها الفعلي في عام 2047. تمت هذه العملية بموافقة رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان السابق الذي يقبع اليوم في السجن، وذلك قبل أسابيع قليلة من الأزمة الاقتصادية في أيلول/سبتمبر 2019.

لم تكن هذه الشكاوى القضائية مفاجئة؛ فالصحافيون المستقلون في لبنان اعتادوا على مثل هذه الممارسات من "حزب المصارف" والمافيات المرتبطة به. مع ذلك، تفاجأ "درج" و"ميغافون" بادعاء ثالث علموا به عبر منصة إعلامية أخرى، وهي MTV، التي سارعت بدايةً إلى نشر "سكوب" الادعاء، ثم تابعت بترويجه لاحقًا، مهلّلة بالدعاوى القضائية ضد منصّات إعلامية مستقلة.

الأمر لا يتعلق بالدفاع عن موقع "درج"، "ميغافون" أو أي منصة إعلامية بعينها، بل يتعلق بالدفاع عن حرية الصحافة والتعبير في وجه نفوذ المال والمصارف

ليس دفاعاً عن "درج" و"ميغافون"!

الأمر لا يتعلق بالدفاع عن موقع "درج"، "ميغافون" أو أي منصة إعلامية بعينها، بل يتعلق بالدفاع عن حرية الصحافة والتعبير في وجه نفوذ المال والمصارف. من المثير للسخرية أن الحجة الوحيدة التي ترددها منصّات المصارف ضد الإعلام المستقل هي اتهامات سخيفة تعتمد على نظريات المؤامرة السطحية، أمّا الصحافيون الذين يعدّون هذه التقارير فيعلمون جيدًا أن هذه الحجج لا أساس لها من الصحة. مثال على ذلك هو استخدام اسم جورج سوروس، الذي يناهز الـ90 عامًا، ذريعة للهجوم على هذه المنصّات ممّا يكشف عن "الإفلاس" الأخلاقي والمهني لهذه المنصّات. وبالمناسبة، تتجاهل هذه التقارير أيضًا حقيقة أن أحد أهم أسباب كراهية جورج سوروس في الغرب تأتي بسبب اعتباره "عدوًا لإسرائيل"، إلى حد أن الوزير الإسرائيلي عميحاي شيكلي صرّح في عام 2023: "لا يوجد شخص ألحق ضررًا أكبر بمكانة إسرائيل في العالم، خاصة بين ما يُسمى بالتقدميين، أكثر من جورج سوروس".

أما بالنسبة لنموذج العمل (business model)، فإن الكثير من المنصّات الإعلامية المستقلة ومنظمات المجتمع المدني في لبنان وحول العالم تعتمد على تنويع مصادر التمويل لضمان استقلاليتها التحريرية وعدم خضوعها لأي جهة مانحة واحدة. من الواضح أن هذا النموذج يشكل تهديدًا مباشرًا للمؤسسات الإعلامية التي تعتمد بشكل كبير على تمويل مشبوه مرتبط بأوجه الفساد والنفوذ.

بيان تضامني

في مواجهة الهجمات القضائية والإعلامية على منصات مثل "درج" و"ميغافون"، أصدرت نحو 60 منظمة محلية ودولية بيانًا تضامنيًا لدعم المنصتين ضدّ محاولات الترهيب القضائي والتشهير الإعلامي. البيان أدان استخدام أدوات الدولة لاستهداف الصحافيين وطالب بوقف الدعاوى الكيدية وضمان بيئة حرة للإعلام وإصلاحات بنيوية تضمن الشفافية ومحاسبة المسؤولين عن الانهيار الاقتصادي.

الشفافية في التمويل

بحسب تقرير مرصد ملكية وسائل الإعلام الذي أعدّه مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية "سكايز" العام الماضي، هناك أربع منصات إعلامية في لبنان تتمتع بالشفافية الكاملة في تمويلها وهي: "درج"، "ميغافون"، "إذاعة صوت كل لبنان"، و"L'Orient Le Jour". بالمقابل، يُظهر التقرير أن نحو 80% من وسائل الإعلام اللبنانية ترتبط بالطبقة السياسية عبر الأسهم والملكية، وأن 90% منها تخفي مصادر تمويلها، والتي نادرًا ما ترتبط بالإعلانات أو عائدات الإنتاج.

لذلك، إذا أرادت أي وسيلة إعلامية ممولة من جهات مشبوهة أن تعيّر هذه المنصات المستقلة، فعليها أولًا الكشف عن مصادر تمويلها بشفافية أو التزام الصمت وإعادة النظر في دورها وأهدافها.

وفي الختام نقول لكل من يهاجم الإعلام المستقل: "إذا كان منزلكم من زجاج فلا ترشقوا الناس بالحجارة".

هلا نهاد نصر الدين
هلا نهاد نصر الدين
هلا نهاد نصرالدين
صحافية لبنانية ومسؤولة وحدة التحقيقات الاستقصائية في موقع "درج"، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2020. تعمل على تحقيقات حول الجرائم المالية والفساد. شاركت نصرالدين في عدّة مشاريع استقصائية عابرة للحدود، من بينها "باسبورات الكاريبي"، "وثائق إريكسون"، و"وثائق باندورا"، ومشروع "بيغاسوس"، وغيرها.
هلا نهاد نصرالدين