الاستقرار الإداري قبل الاستدامة

23 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 17:19 (توقيت القدس)
+ الخط -

في كلّ مرّة يتغيّر فيها مسؤول، يبدو المشهد وكأنّنا أمام فصل أوّل جديد تُمحى فيه صفحات الأمس، وتُدفن الاستراتيجيات، وتُستبدل المبادرات بأخرى تحمل أسماء وشعارات براقة ترتبط بالقادم الجديد. الجميع يتحدّث عن الاستمرارية، عن البناء على ما تحقّق، عن التراكم المؤسسي، لكن الواقع يقول إنّنا نعيش ثقافة البداية من الصفر في حلقة يبدو أنّها لا تنتهي. وكأنّ كلّ وافد جديد يرى نفسه المخلّص الذي بُعِث ليصحّح أخطاء سابقيه، ناسفًا بذلك فرصة السياسات لتثبت جدواها أو تفشل وفق تقييم موضوعي. هذه الظاهرة، ليست مجرّد خطأ إداري؛ بل هي عارض لخلل أعمق في بنية الحكم والحوكمة، وتفتح بابًا للتساؤل حول إمكانية تحقيق الاستدامة من دون استقرار إداري يضمن نضوج الأفكار قبل وأدها؟

أحيانًا يُشار لهذه الظاهرة في الأدبيات الإدارية والسياسية بمسميّات مثل قصَر النظر الاستراتيجي الذي يركّز على الإنجازات السريعة المُرتبطة بولاية المسؤول، بدلًا من الاستمرار بالبناء على ما سبق، وأحيانًا تربط بعقلية رفض أو هدم ما تمّ بناؤه سابقًا فقط لأنه لم يأتِ من الفريق الحالي، ضمن آلية تكسر المسار المؤسسي الطبيعي مع كلّ تغيير في هرم الإدارة.

وتعزى هذه المشكلة لمجموعة عوامل مركّبة؛ أهمها عوامل شخصية نابعة من نزعة بعض المسؤولين لإثبات الذات عبر محو أثر من سبقهم، لإظهار أنّهم المخلّصون. وتدعمها عوامل هيكلية تتمثّل في غياب الحوكمة المؤسسية التي تفرض الاستمرارية بصرف النظر عن تغيّر الأشخاص، وللأسف، تلعب السياسة وارتباط المناصب في دول كثيرة بالولاءات والشخصنة بدلًا من المؤسساتية.

نعيش ثقافة البداية من الصفر في حلقة يبدو أنّها لا تنتهي

وهذه الظاهرة ليست مقتصرة على شرقنا الأوسط الطيّب، ففي أميركا اللاتينية وأفريقيا كثيرًا ما يُلاحظ أنّ كلّ رئيس أو وزير يبدأ من جديد، حتى في الديمقراطيات الغربية، مثل الولايات المتحدة، هناك مبدأ الإلغاء والاستبدال للسياسات مع تغيّر الإدارة كإصلاحات أوباما الصحية التي حاول ترامب نسفها. لكن الفرق أنّ المؤسسات القوية مثل الكونغرس، والمحاكم، وأجهزة الرقابة تضع حدودًا للانقلاب الكامل أو كانت! بينما في منطقتنا غالبًا لا توجد حواجز كافية.

وهنا تظهر أهمية الاستقرار الإداري الذي يشكّل حجر الأساس لأي عملية استدامة حقيقية داخل المؤسسات، فهو الضامن لنضج التجارب والسياسات ومرورها بمراحلها الطبيعية من الدراسة إلى التخطيط إلى التنفيذ ثم التقييم. فعندما تتوافر بيئة مستقرة إداريًا، يصبح بالإمكان قياس النتائج بموضوعية ومراكمة الخبرات السابقة لتشكيل معرفة مؤسّسية متجدّدة، بدلاً من إعادة اختراع العجلة مع كلّ دورة إدارية جديدة. الاستقرار هنا لا يعني الجمود أو الركود، بل يعني الحفاظ على خطّ متصل من العمل مع إفساح المجال للتغيير المدروس الذي يطوّر ويصحّح من دون أن ينسف ما سبق. فالمؤسّسات التي تفتقر إلى هذا الاستقرار سرعان ما تقع في حلقة مفرغة، حيث تُعاد صياغة الاستراتيجيات والمبادرات كلّ بضع سنوات قبل أن يُتاح لها إثبات أثرها، فيغيب التراكم البنّاء ويتحوّل العمل المؤسسي إلى سلسلة من الانقطاعات المتكرّرة.

لا تتحقّق الاستدامة بالشعارات ولا بالمبادرات المتعاقبة، بل بالقدرة على حماية التراكم المؤسسي وإعطاء السياسات حقها في النضوج والتقييم

غير أنّ المشكلة لا تكمن فقط في غياب الاستقرار، بل أيضًا في ضعف استعداد القيادات لمنح الاستراتيجيات والمبادرات الوقت الكافي لتنضج. فغالبًا ما تكون دورة حياة الاستراتيجية أطول من دورة حياة المسؤول، ما يدفعه إلى القلق من ألا يُنسب النجاح إليه مباشرة، فيسعى إلى تبنّي مبادرات جديدة تحمل اسمه وتُرسّخ حضوره. يضاف إلى ذلك ضعف منظومات التقييم والقياس، التي تسمح بتبرير إجهاض المشاريع السابقة تحت ذريعة فشلها، من دون وجود بيانات دقيقة تدعم هذا الادعاء. وتغذّي هذه الممارسات ثقافة المخلّص الفردي الذي يقدّم نفسه باعتباره صاحب الحلول الجذرية، على حساب ثقافة التراكم والبناء المؤسسي التي تحتاج إلى زمن وصبر وآليات موضوعية للحكم على النتائج. النتيجة هي فقدان المؤسّسات لفرصة اختبار السياسات وفق منهجية علمية، وإضاعة موارد ثمينة في دورة لا تنتج استدامة ولا تراكمًا معرفيًا يمكن البناء عليه.

إنّ ما نشهده ليس مجرّد نزعة شخصية أو مزاج فردي للمسؤولين الجدد، بل هو انعكاس لغياب الحوكمة الرشيدة والاستمرارية المؤسّسية. ومن دون استقرار إداري يضمن البناء على ما تحقّق، تغدو المؤسّسات عالقة في دائرة من الهدم وإعادة الاختراع، حيث تُستنزف الموارد والوقت وتُقوّض ثقة المجتمع. إنّ الاستدامة لا تتحقّق بالشعارات ولا بالمبادرات المتعاقبة، بل بالقدرة على حماية التراكم المؤسسي وإعطاء السياسات حقها في النضوج والتقييم. ومن هنا، تقع على عاتق صانع القرار مسؤولية تاريخية في كسر هذا النهج المدمّر، واعتماد مسار مختلف يقوم على الالتزام المؤسسي، وتعزيز أدوات المتابعة والتقييم، وضمان أن تكون الاستراتيجيات ملكًا للمؤسسة والوطن لا ملكًا للأشخاص. عندها فقط يمكن أن تتحوّل الاستراتيجيات من مشاريع مؤقّتة إلى إرث حيّ قادر على إنتاج أثر مستدام ينعكس على الدولة والمجتمع.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.