التكامل بين الذكاء الاصطناعي والحكم البشري
في المشهد سريع التطوّر للقرن الحادي والعشرين، تُواجه الإدارة العامة كلّ يومٍ مزيدًا من التحدّيات المُعقدة، من إدارةِ أزماتِ الصحة والتعليم، وضغوط احتياجاتِ البنى التحتيّة والمرافق الحضريّة، وتراكم آثار الأزماتِ الاقتصاديّة، والتحولات الاجتماعيّة إلى معالجة تغيّر المناخ وغيرها. قضايا متفرّعة ومتشابكة يتطلّب نطاقها وتعقيدها حلولًا مبتكرة وقدرةً على صنع القرار بناءً على الأدلة واتخاذه (القرار) في الوقت المناسب. وقد يكمن أحد هذه الحلول في تكامل الذكاء الاصطناعي مع قدراتِ الحكم البشري لتعزيزِ عمليّات صنع القرار في الإدارة العامة، من خلال الاستفادة من الإمكانات التنبؤيّة للذكاء الاصطناعي، جنبًا إلى جنب مع الفهم الدقيق للخبرات والقيادات البشرية، ممّا يُمَكن مؤسّسات الإدارة العامة من تحقيق نتائج أكثر فعاليّة وكفاءة وعدالة.
ومع ترويج البعض وهرولتهم باتجاه الاعتماد الكلّي على التقنيات الناشئة لمواجهة هذه التحدّيات واستبدال العنصر البشري لتحسين الكفاءة والدقة وتقليل الكُلف، ينبغي علينا التروّي والتوقّف قليلًا عند هذه المسألة، فعلى الرغم من كلّ ما بشّر به عصر الذكاء الاصطناعي إلّا أنّه علينا الإقرار، بأنّنا ما زلنا بعيدين كثيرًا عن استبدال الحكم أو القرار البشري بحكم الآلة، فبالتأكيد ستتفوّق تقنيّات الذكاء الاصطناعي في مجال تحليل البيانات الضخمة والتعلّم الآلي السريع وتحديد الأنماط وبناء السيناريوهات والتنبؤات المستقبلية، إلا أنّنا ما زلنا بحاجةٍ للحكم أو القرار البشري، الذي يُبنى على خبرة الناس ومعرفتهم وحدسهم وقيمهم ومنطقهم، وقبل كلّ هذا تعاطفهم. فالحكم البشري المبني على مبادئ سليمة، يشمل فهماً أكثر دقة للسياقات المحليّة والاعتبارات الأخلاقيّة والذكاء العاطفي الذي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي حاليًا محاكاته، هذا الحكم القادر على فهم التفاصيل الاجتماعيّة والثقافيّة والدينية الدقيقة، واتخاذ القرارات الأخلاقية وممارسة التعاطف، خصوصًا في القرارات التي ستؤثّر على بشرٍ آخرين، القرارات التي لا تستطيع فيها البيانات وحدها تقديم صورة كاملة، بل إنّ الأمر يتطلّب فهمًا دقيقًا للسياق مع القدرة على وزن عوامل متعدّدة ونتائج مُحتملة كثيرة قد لا يدركها منطق الآلة. فعلى سبيل المثال، قد تقرّر الآلة أنّ الحل الأفضل في سبيل تحسين الكفاءة والفعالية وتحقيق الجدوى الاقتصادية استبدال الناس بالروبوتات في عمليّةٍ معيّنةٍ، ولكن الحكومات قد تزن الأمر بشكلٍ مختلف وتحسب تبعات البطالة والآثار الاجتماعيّة وتصويت الناخبين وغيرها، فالغرض من الإدارة العامة في النهاية رفاه المواطنين وتحقيق احتياجاتهم وتوقّعاتهم وآمالهم، وليس فقط تحسين العمليات بهدف تحسينها أو زيادة العائد.
هذا الوضع المُتشابك يفرض على الحكوماتِ تحدّي الموازنة ما بين تسخير التقنيّات الناشئة وتعزيز القيادة البشرية وقدرتها على اتخاذ القرار المبني على الأدلة في آنٍ معًا، بالاعتماد على نموذج عملٍ يتكامل فيه الطرفان، نموذج يلعب فيه الذكاء الاصطناعي دور محلّل البيانات ومقيّم المخاطر والسياسات، وراسم السيناريوهات المستقبلية التي قد يحتاج العنصر البشري إلى سنوات للقيام بها، بينما يلعب العنصر البشري الدور التكميلي في فهم السياق الإنساني، والاعتبارات الأخلاقية، وصنع القرار المعقد في الإدارة العامة الذي قد يُبنى على مقايضات معقدة وأحكام قيمية لا يمكن اختزالها في البيانات وحدها.
الإمكانات الحقيقيّة للذكاء الاصطناعي في الإدارة العامة تتحقّق عندما يتم استخدامه لتكملة الحكم البشري وليس استبداله
فالإمكانات الحقيقية للذكاء الاصطناعي في الإدارة العامة تتحقّق عندما يتم استخدامه لتكملة الحكم البشري وليس استبداله. ويمكن تحقيق هذا التآزر من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي لتزويد صنّاع القرار برؤى مبنيّة على الأدلة تعتمد على البيانات والتحليلات التنبؤيّة التي تساعد على اتخاذ القرارات وتعزّزها. كما يمكن أن يساعد دمج الذكاء الاصطناعي في منصّات وأدوات صنع القرار التي يستخدمها الخبراء البشر بالتفاعل مع التحليلات والرؤى التي يُولّدها الذكاء الاصطناعي في الوقت الفعلي. ممّا يسهّل من عمليّاتِ صنع سياساتٍ أكثر ديناميكيّة واستجابة. وبالطبع لا يمكن تحقيق هذا من دون الاستثمار في بناء قدراتِ وتدريب العاملين في الإدارة العامة، خصوصًا صانع ومتخذ القرار على فهم وتقييم مُخرجات الذكاء الاصطناعي نقديًا، وضمان تأهيلهم لاستخدام هذه الأدوات بفعالية.
وفي النهاية، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تتعلّم من ردود أفعال وقرارات البشر، مما يؤدّي إلى تحسين دقتها وملاءمتها للاحتياجات البشرية بشكلٍ مستمر. وبالمثل، يمكن لصنّاع القرار البشري تحسين حكمهم بناءً على الرؤى التي يولّدها الذكاء الاصطناعي، فدمج إمكانات الذكاء الاصطناعي التحليليّة والتنبؤيّة مع قدراتِ الحكم البشري يحمل إمكاناتٍ هائلة لتحويل عملية صنع القرار في الإدارة العامة، ومن خلال الاستفادة من نقاط القوّة في كلا الجانبين، يمكن للحكومات معالجة التحدّيات المعقدة بشكلٍ أكثر فعاليّة، وتحسين تخصيص الموارد وتطوير الخدمات، وتحقيق المزيد من التقدّم والرفاه للمواطن.