الضفة الغربية... من وهم ديني إلى تصويت الكنيست

27 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 10:00 (توقيت القدس)
+ الخط -

منذ إعلان ما يُعرف بـ"صفقة القرن" عام 2020، التي صيغت في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، دخلت الضفة الغربية مرحلة جديدة من الاستهداف السياسي، وأخيراً بتصويت الكنيست على مشاريع قوانين لضمّها رسمياً. ومع عودة الشخصيتين إلى الحكم في واشنطن وتل أبيب، عاد المشروع بروح أكثر استيطانية، مدعوماً ببنية أمنية وتشريعية، تدفع نحو الضمّ أمراً واقعاً لا خياراً سياسياً.

أرض الآباء والأنبياء

لم يتوقّف اليمين الإسرائيلي المتطرّف عند حدود السيطرة الأمنية، بل لجأ إلى أدوات أيديولوجية لتثبيت وجوده في الضفة الغربية، يصفها بأنها "أرض الآباء والأنبياء"، وهو توصيف ديني، يُستخدم ضمن خطاب تعبوي يحاول فرض شرعية توراتية على واقع سياسي. ووفقًا لاستطلاع أجراه مركز "نبض إسرائيل" في يناير/كانون الثاني 2025، فإنّ 71% من الإسرائيليين يُعارضون إقامة دولة فلسطينية، ويؤيّد قرابة 70% منهم فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، ما يعكس تحوّلاً لافتاً في بنية الخطاب السياسي والتوجّه الشعبي الإسرائيلي.

هذا التوظيف الديني ليس جديداً، لكنه اكتسب بعداً أكثر خطورة في حكومة نتنياهو، التي تضم وزراء غلاة مُحترقون، والذين لا ينظرون إلى الضفة إلّا على أنها مساحة جغرافية لتنفيذ المشاريع الصهيونية.

استيطان مُمنهج ومصادرة واسعة

في النصف الأوّل من 2025، سُجِّل توسّع استيطاني هائل في الضفة. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، أُعلنَت إقامة 22 بؤرة استيطانية جديدة، ومنذ بداية العام، صادرت إسرائيل نحو 40 ألف دونم، ليصل مجموع الأراضي المُصادرة منذ تشكيل حكومة نتنياهو إلى 75 ألف دونم.

تغييرات جغرافية وديموغرافية واسعة، تهدف إلى خلق واقع يمنع أيّ إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية مُستقلة

وفعلياً، فإنّ الوحدات الاستيطانية الجديدة تجاوزت 30 ألف وحدة، وهو رقم يكشف عن استراتيجية تسريع مدروس لتهويد الأرض، يترافق مع تغييرات جغرافية وديمغرافية واسعة، تهدف إلى خلق واقع يمنع أيّ إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية مُستقلة.

المستوطنون والجيش

الاعتداءات اليومية من قبل المستوطنين على القرى الفلسطينية في الضفّة الغربية تحوّلت إلى نمط ثابت، تُغذّيه شراكة غير معلنة مع الجيش الإسرائيلي. في بلدات مثل قرية سنجل، الطيبة، البرقا، سوسيا والمغيّر ومسافر يطّا وخِرَب الخليل، شنّ ويشنّ المستوطنون هجمات منظّمة، أدت إلى مقتل فلسطينيين، وحرق منازل وممتلكات وتهجير من دون محاسبة.

وحسب مكتب الأمم المتحدّة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد وُثِّق ما يقارب 740 هجوماً من المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم منذ مطلع 2025؛ تمخّض عنها شهداء واستيلاء على أراضيهم وسرقة مواشيهم بالآلاف أو قتلها.

الهدف من هذا الترهيب دفع الفلسطينيين إلى النزوح الطوعي، وبالتالي تسهيل السيطرة الكاملة على الأرض.

الرؤية الأميركية الجديدة

لم يعد الدعم الأميركي لإسرائيل مُقتصراً على الغطاء الدبلوماسي، بل تحوّل إلى خطاب يكرّس الرواية الإسرائيلية وينكر النقيض الفلسطيني. فقد صرّح السفير الأميركي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، في مقابلة علنية عام 2008 خلال حملته الانتخابية بأنه "لا يوجد فعلياً ما يُسمّى شعباً فلسطينياً، فهذه الهوية طُوّرت كأداة سياسية لانتزاع الأرض من إسرائيل"، وأعاد تصريحه مجدّدًا بشكل آخر، وهو تصريح يتجاوز حدود اللباقة الدبلوماسية بكثير، بل هو إنكار فجّ لوجود شعب يمتدّ تاريخه لآلاف السنين، مقابل كيان استعماري لا يتجاوز عمره ثمانية عقود، ما يجعل هذا التصريح امتداداً لفكر استعلائي استعماري لا يختلف عن نظريات محو الشعوب في أكثر لحظات التاريخ سواداً.

الهدف من الترهيب هو دفع الفلسطينيين إلى النزوح الطوعي، وبالتالي تسهيل السيطرة الكاملة على الأرض

في ظلّ السياسات الإسرائيلية الاستيطانية والدعم الأميركي الواسع، تشير المعطيات السياسية إلى أنّ هناك احتمالية كبيرة لأن تعكف إدارة ترامب على إعداد خطة رسمية للاعتراف بالضمّ الكامل للضفة الغربية، ضمن صفقة شاملة تشمل دعماً اقتصادياً إضافياً ومبادرات تطبيع إقليمي موسّعة، ما يعني أنّ تصويت الكنيست على الضمّ، وما يدور الآن من إبادة جماعية في غزّة وهدم منازل واعتداءات وقضم أراضٍ شاسعة في الضفة، هو فعلياً تطبيق لخطّة ترامب التي اقترحها في 2020، والمعروفة بـ"صفقة القرن"، التي تشكّل اليوم الأرضية السياسية والقانونية التي تُمهّد لتكريس هذا المشروع الاستعماري بأشكاله الحديثة.

تشريع الضم

لقد بدأ التوجّه التشريعي منذ زمن، إذ بدأت إسرائيل بطرح 22 مشروع قانون في الكنيست تهدف إلى ضم الضفة الغربية رسمياً. أحد هذه القوانين صُدِّق عليه، ويتعلّق بإلغاء الانفصال عن شمال الضفة الغربية وقطاع غزّة، وهذا قبل العدوان الإسرائيلي على غزّة، حسب الخبير بالشؤون الإسرائيلية مهند مصطفى، بما يفتح الطريق أمام فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة؛ ضمن سياسة "فرض القانون الإسرائيلي على الأراضي المحتلة"، وهي مخالفة للقانون الدولي، وتحديداً اتفاقية جنيف الرابعة؛ القوانين التي تضرب بها إسرائيل عرض الحائط.

تتجه الأنظار إلى العلاقة بين نتنياهو وحلفائه في اليمين المتطرّف، الذين يضغطون عليه لإكمال مشروع الضمّ، وفي خطوة بديهية يستخدم نتنياهو هذه الضغوط كورقة تفاوض للضغط على إدارة ترامب للاعتراف بالضمّ، كما فعل حين اعترف الأخير بالقدس الشرقية عاصمة لإسرائيل.

إنّ سيناريوهات المستقبل تتمثّل بضم تدريجي مع صمت دولي، واستمرار القضم القانوني للأرض الفلسطينية تحت ذرائع أمنية وإدارية، وردود فعل فلسطينية مقاومة مع تزايد احتمال اندلاع انتفاضة جديدة في ظل انسداد الأفق السياسي، تصدّع الموقف العربي الرسمي وإحراج الدول المطبّعة، من دون تغيير حقيقي في المواقف، ازدياد العزلة الإسرائيلية، وعقوبات شكلية من الاتحاد الأوروبي من دون خطوات فعلية.

الضفة أمام لحظة حاسمة

المشهد في الضفة الغربية في طريقه إلى تحوّل نوعي في بنية المشروع الصهيوني؛ يعتمد اليوم على أدوات قانونية وتشريعية تُصاغ داخل الكنيست، وتتغذّى من خطاب ديني متطرّف مُرفَق بالدعم الأميركي غير المسبوق. في ظلّ هذا الواقع، تبدو الدولة الفلسطينية أبعد من أيّ وقت مضى، بينما الأرض تتآكل تحت أقدام أصحابها، وتُعاد صياغة الجغرافيا ببنادق المستوطنين ووحشيتهم.