الطائفية والوطنية بين المشكلة والحل

26 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 18:33 (توقيت القدس)
+ الخط -

 لوهلةٍ أو أكثر، تبدو العلاقة بين الطائفية والوطنية بسيطةً وواضحةً: الطائفية هي مشكلةٌ أو المشكلة، والوطنية هي حلٌّ أو الحل. ونجد هذه الإدانة للطائفية واضحةً، حتى قبل صياغة كلمة خاصة للتعبير عن مفهوم الطائفية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، في نصوص بطرس البستاني، على سبيل المثال، ولا سيما تلك التي أعقبت الحرب الأهلية أو الفتنة الطائفية في لبنان وسورية عام 1860. وفي نصوص البستاني ذاتها، نجد تقريظًا للوطنية بوصفها حلًّا أو الحلّ لكلّ الفتن والمشكلات السياسية/ الدينية والطائفية التي تعصف بالدولة والمنطقة والمجتمع وتهدّد (العلاقات بين) الجماعات الموجودة فيها. وتبنّى البستاني مقولة "حب الوطن من الإيمان" شعارًا لمجلة الجنان التي أصدر عددها الأول عام 1870. وقبلها، وفي عام 1860، كان يخاطب الناس والقرّاء في نشرات/ وطنيات "نفير سوريا"، بوصفهم "أبناء الوطن"، ويُذيّل كلّ "وطنية" منها بتوقيعه بوصفه "محبٌّ للوطن".

وقد استمرّت هذه المثنوية (طائفية "سلبية ومنبوذة" مقابل وطنية "إيجابية ومرغوبة") سائدة في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة حتى الآن. فتمّ الحديث عن الطائفية، بوصفها مشكلة أو معضلةً ومرضًا وعائقًا أمام الوحدة الوطنية والتقدّم والنهضة.. إلخ. ولم يُقتصر على التنديد بالطائفية وإظهار نتائجها السيئة، بل تمَّ البحث في العوامل والأسباب التي تؤدي إلى ظهورها. وعلى الرغم من أنّ الموضوع إشكاليٌّ وذو أبعادٍ متعدّدةٍ ومعقّدةٍ ومختلفةٍ وفقًا للسياقات، لكن ثمّة عناوين عريضة للدراسات حول الطائفية. أولًا، الطائفية ليست نتيجةً طبيعيةً ولا تلقائيةً لوجود طوائف، بل إنّ الوجود السياسي للطوائف أو وجود الطوائف السياسية هو نتيجة للطائفية. ثانيًا، على الرغم من ارتباط الطائفية بالجماعات الأهلية، وليس بالجماعات المدنية، ليست بقايا عصورٍ غابرةٍ وماضٍ يرفض المضي، بل هي ظاهرةٌ مرتبطةٌ بالحداثة وبتوجّهاتها السياسية وبنظام الدولة-الأمة. ثالثًا، الطائفية ظاهرةٌ سياسيةٌ مرتبطةٌ بعلاقات القوّة وبتوجّهات النخب السياسية أكثر (بكثير) من كونها ظاهرةً دينيةً ناتجةً عن تباين الاعتقادات أو العقائد الدينية. رابعًا، التشديد على البعد السياسي في الطائفية لا ينكر أو ينفي أسسها وأبعادها النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي تدفع، أحيانًا، إلى النظر إلى التمايزات بين الطوائف على أنّها تمايزات بين أساليب ومنظورات حياةٍ مختلفةٍ. خامسًا، إضافةً إلى العامل/ البعد السياسي، فإنّ العامل/ البعد الاقتصادي هو العامل الأقوى غالبًا في نشوء الطائفية و/ أو استمرار أو تفاقم وجودها، ولهذا جرى الحديث، أحيانًا، عن كونها توظيفًا للدين في الصراع على السلطة والموارد، أو إنّها نظام سياسي- اقتصادي يخدم إعادة إنتاج التبعية الطبقية والاستعمارية. ومن المُفيد التذكير، هنا، بالبعد أو العامل الاقتصادي الأساسي أو المؤسّس للفتنة/ الحرب الطائفية التي جرت عام 1860 في جبل لبنان، والتي كانت بين الإقطاعيين الدروز والفلاحين الموارنة. وحتى امتداداتها إلى دمشق وحلب كانت مرتبطةً بالامتيازات الاقتصادية التي تحظى بها بعض الملل على حساب جماعةٍ أو جماعاتٍ أخرى. ويقودنا هذا الأمر إلى العنوان السادس والأخير، في هذا السياق، والمتمثِّل في وجود عاملٍ خارجيٍّ في كلّ نشوءٍ للطائفية، وفي كلّ توتّراتٍ أو فتنةٍ أو حربٍ طائفيٍّة. ففي السياق المذكور، تحوّلت الطائفة الدرزية إلى وكيلةٍ للإنكليز أو تحوَّل الإنكليز إلى وكلاءَ لها ومتحدّثين باسمها ومُتدخّلين لصالحها، الفعلي أو المزعوم. وكذلك كان الحال في العلاقة بين الموارنة والفرنسيين والنمساويين، أو بين الأرثوذكس وروسيا.. إلخ. وخلال العقود الأخيرة، كان لبنان منقسمًا بين نخبٍ شيعيةٍ (إيرانيةٍ) ونخبٍ سنيةٍ (سعوديةٍ) ونخبٍ مسيحيةٍ (فرنسيةٍ أو أوروبيةٍ).. إلخ.

الطائفية ليست نتيجةً طبيعيةً ولا تلقائيةً لوجود طوائف، بل إنّ الوجود السياسي للطوائف أو وجود الطوائف السياسية هو نتيجة للطائفية

الحمولة المعيارية السلبية الثقيلة في مفهوم الطائفية جعلته أقرب إلى أن يصبح سُبَّةً أو مسبّةً، فضاع معناه أو مضمونه الوصفي من ابتذال أو استسهال استخدامه المعياري المتكرّر. والحال ذاته ومعكوسٌ في خصوص مفهوم الوطنية ذي الحمولة المعيارية الإيجابية الثقيلة أيضًا، حيث أصبح أداةً للمدح والتقريظ والتمجيد، مع ضبابيةٍ هائلةٍ تغلِّف مضمونه الوصفي أو التحليلي. وسأقدِّم، في السياق الحالي، تعريفًا بسيطًا وواضحًا ومُفيدًا وخفيف الحمولة المعيارية لكلٍّ من مفهومي (الرؤية) الطائفية والوطنية، لأناقش بعض الظواهر والاستخدامات المرتبطة بالمفهومين المذكورين.

الرؤية الطائفية هي الرؤية التي تنظر إلى المسائل المطروحة من منظور المصالح أو القيم أو التوجّهات، الفعلية أو المظنونة أو حتى الموهومة، لجماعةٍ أو طائفةٍ ما، بالدرجة الأولى، أو تعطيها الأولوية أو الأفضلية، بغضّ النظر عن مصالح أو قيم أو توجّهات الجماعات والطوائف الأخرى، أو على حساب تلك المصالح والقيم والتوجّهات. أما الرؤية الوطنية فتنظر إلى المسائل المطروحة وتنظِّر لها من منظور المصلحة العامة للشعب بوصفه كلًّا، وللبلد أو الوطن بوصفه وطنًا أو يجب أن يكون وطنًا لجميع أبنائه، بغضّ النظر عن الاختلافات الطائفية أو الدينية أو الإثنية أو المناطقية القائمة في ما بينهم. وعلى الرغم ممّا يبدو أفضلية للوطنية على الطائفية، ينبغي تعليق الحكم المعياري مؤقتًا، وعدم الجزم بالأفضلية المذكورة، لأنّ الوطنية اتُّخذت، في سياقاتٍ كثيرةٍ، أداةً لقمع وإعدام الأصوات المعارضة أو المُختلفة سياسيًّا و/ أو ثقافيًّا وتخوينها وإخراجها من دائرة المقبول والمسموح به. أمّا الطائفية فعُدَّت أحيانًا ملجأً (مؤقتًا)، عندما ظهر بوضوحٍ أنّ الوطن تحوّل إلى جهنمَ وجحيمٍ وطنيٍّ. وبعد هذا التوضيح النظري البسيط والمكثَّف سأتناول بعض الظواهر السورية البارزة في الواقع الراهن.

اتُّخذت الوطنية في سياقاتٍ كثيرةٍ، أداةً لقمع وإعدام الأصوات المعارضة أو المختلفة سياسيًّا و/ أو ثقافيًّا وتخوينها وإخراجها من دائرة المقبول والمسموح به

يردّد كثيرون، بوعيٍ أو من دونه، مقولة أو عبارة أنّ "السنة ليسوا طائفة، ولا يمكن أن يكونوا طائفةً، فالسنة هم الأمة؟" سأترك جانبًا البعد أو المعنى الديني المُفترض أو المظنون من هذا القول، والذي قد يرى أنّ السنة هم الإسلام (الصحيح)، وكلّ من يُغايرهم من الفرق والمذاهب (الإسلامية) إنما هم خارجون عن هذا الإسلام أو منحرفون عن الطريق القويم الذي يمثّله. فكما ذكرت، آنفًا، مفهوم الطائفة الذي نتحدّث عنه مفهومٌ سياسيٌّ أكثر من كونه مفهومًا ينتمي إلى الحقل الديني. ووفقًا للشروحات التي يقدمها بعض متبني العبارة المذكورة، المقصود بذلك أنّ التنوّع السياسي والفكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وحتى الديني الموجود لدى السنة كبيرٌ لدرجة تجعل من المُستحيل تحويلهم إلى جماعةٍ طائفيةٍ واحدةٍ ذات توجّهٍ ورأسٍ سياسيٍّ واحدٍ. قد يُقال إنّ هذا هو حال كلّ الطوائف والجماعات العضوية. لكن الأمر ليس كذلك، بالكم أو بالدرجة على الأقل.

وربما كانت المقارنة بين ردات فعل "السنة"، بعد 2011، و"الدروز" في 2025، على ما تمّ اقترافه بحقّهم، يعطي قرينةً على الاختلاف بين السنة بوصفهم جماعة يصعب اختزالها إلى طائفةٍ (سياسيةٍ) واحدةٍ، حتى عند تعرّضها لهجوم وجرائم ومذابح كثيرةٍ وكبيرةٍ، والجماعة الدرزية، بوصفها أقليةً عدديًّا، تتحوَّل إلى طائفةٍ صلبةٍ عند تعرّضها لهجومٍ ومذبحةٍ ما، فتتم تهيئة الظروف للنظر إلى الهجوم على أنّه أزمةٌ وجوديةٌ، وإلى التهديد بوصفه تهديدًا وجوديًّا، لا يمكن التعامل معه سياسيًّا. ولهذا بقيت الجماعة السنية مُنقسمة التوجّهات السياسية حتى بعد مقتل مئات الآلاف من أبنائها، ونزوح الملايين منهم. في المقابل، لم يعد هناك صوتٌ مهمٌّ ووازنٌ يعلو فوق صوت الهجري، على الرغم من تحالفه مع رجالات النظام الأسدي السابق، واستجدائه المستمر للدعم الإسرائيلي ورضا نتنياهو عليه، مقابل رفضه الكامل لأيّ صلة أو تفاوض مع السلطة الحاكمة في دمشق حاليًّا، مع ما في ذلك من تضحيةٍ بمصالح وقيم ومصير كثيرات وكثيرين من الطلاب والموظفين والناس العاديين الذين زادت معاناتهم بسبب مواقف الهجري وجماعته، من دون إنكار أو نفي وجود مسؤولية موازية وأكبر تتحمّلها سلطة الأمر الواقع في دمشق.

بقيت الجماعة السنية منقسمة التوجّهات السياسية حتى بعد مقتل مئات الآلاف من أبنائها، ونزوح الملايين منهم

انطلاقًا مما سبق ومن غيره، وفي السياق السياسي السوري المعاصر، يمكن القول بمعقولية، جزئية ونسبية، للقول إنّ السنة ليسوا، ولا يمكن أن يكونوا طائفة، بقدر ما تكون التوجّهات والمواقف السياسية للمنتمين نسبًا إلى السنة لا تتأسّس على مطالب بحقوق أو امتيازات خاصة بالسنة. واحتمال تحوّل السنة، بوصفهم أكثريةً عددية، إلى طائفةٍ سياسيةٍ ضعيفٌ، بسبب التباينات الكثيرة والكبيرة بينهم، وبسبب كونهم أغلبيةً. فهذا الانتماء إلى الأغلبية العددية يجعلهم لا يحوّلون الأخطار التي يتعرّضون لها إلى أخطارٍ وجوديةٍ، فتبقى لديهم فسحة كبيرة لأن يكونوا جزءًا من الأمة، وليسوا (مجرّد) طائفة.

ما سبق ذكره لا ينفي إمكانية تحوُّل السنة أو سنةٍ، حتى عندما يكونون أكثريةً عدديةً، إلى طائفةٍ سياسيةٍ. وهذا ما حصل، جزئيًّا ونسبيًّا، في الأشهر الأخيرة التي تلت سقوط/ إسقاط النظام الأسدي، حيث بدأت النزعة الطائفية، لدى بعض المنتمين إلى السنة نسبًا، تظهر، بوضوحٍ أكبر، مع ازدياد حضور سردية مظلومية خاصة بهم، وزيادة مطالبات هؤلاء بحقوق وامتيازات خاصة للسنة، بوصفهم جماعة مظلومةً، وبوصفهم أغلبية، أي بوصفهم طائفة دينية. وأصبح هؤلاء ينظرون إلى سورية من منظور سنيّتهم، بدلًا من أن ينظروا إلى سنيّتهم والانتماءات الموروثة لغيرهم، من منظور سوريتهم. والمفارقة الطريفة هنا هي أنّ معظم هؤلاء لا يرفضون أن يوصفوا بالطائفيين فحسب، بل يصرّون على الزعم بأنّ السنة لا يمكن أن يكونوا طائفةً أصلًا، على الرغم من أنّهم يتصرّفون بطريقة تجعل منهم، أي من السنة، طائفة بالضرورة، من خلال تأسيس مطالبهم السياسية وغير السياسية على انتمائهم الطائفي/ الديني خصوصًا أو حصرًا. وتحوّل السنة أو سنةٍ إلى طائفةٍ (سياسيةٍ) لا يعني أنّ كلّ السنة أو حتى أغلبيتهم قد تبنوا الرؤية الطائفية، وإنما يعني أنّ جزءًا فاعلًا منهم قد أصبح ينظر إلى المسائل (السياسية) العامة وفي المجال العام من منظور مصلحة طائفته، أو بالأحرى طائفيته، السنية. ولا يهم هنا أن تكون المصلحة المذكورة مزعومة وموهومة وليست بالوقائع مدعومة. فليس من النادر أن يكون أبناء الطائفة ذاتها هم أوّل ضحايا الطائفية السياسية المزعوم أنّها تمثّلهم وتسعى إلى تحقيق مصالحهم.

ليس من النادر أن يكون أبناء الطائفة ذاتها هم أول ضحايا الطائفية السياسية المزعوم أنها تمثلهم وتسعى إلى تحقيق مصالحهم

والغرض من التوضيح المفاهيمي لمفهوم الطائفية هو أن يفهم الطائفي السني أنّه عليه أن يختار أحد أمرين، لأنّه يستحيل الجمع بينهما: إمّا أن يطالب بحقوق خاصّة للسنة، بحجة أنهم أغلبية، فيجعل، حينها، من السنة، أو من سنةٍ، طائفةً، لا أمّة، وإما أن يرفض أيّ حقوق أو امتيازات خاصة بطائفته أو جماعته السنية التي ينتمي إليها نسبًا و/ أو انتسابًا، ويصرّ على المساواة، في المجال السياسي والقانوني والإنساني المبدئي، بين أفرادها وأفراد كلّ الطوائف والجماعات العضوية الأخرى، وحينها، فقط، يكون وجماعته جزءًا من أمّة ما، وليس من طائفةٍ سياسيةٍ. ويمكن تطبيق المنطق نفسه على كلّ الأيديولوجيات الطائفية والمذهبية والدينية والإثنية، لكن يبقى تطبيقها، في سورية، على "السنة" و"العرب" هو الأهم، لأنهم "الأمة"..!

ومرّة أخرى، أجد طريفًا أنّ معظم من يتبنى الرؤية الطائفية ينتقد ويتهم الأطراف السياسية المحلية المُختلفة معه أو المُخالفة له بالطائفية، من دون أن يعي أو يفهم أو يقرَّ أنّه بسلوكه وأقواله وتوجّهاته كان أو أصبح، هو نفسه، طائفيًّا للنخاع. وبكلماتٍ أخرى، إنّ معظم متبني وممارسي الرؤية الطائفية هم من أكثر الأطراف التي تستسهل إجراء المحاكمات لقياس منسوب الوطنية عند الآخرين وتتنطّع لمهمّة توزيع شهادات الوطنية على "المستحقين" وحجبها عن "الخونة غير المستحقين". وهكذا، نجد أشخاصًا يرفعون راياتٍ داعشيةً ويحاولون فرض لونٍ طائفيٍّ واحدٍ على الدولة ومؤسساتها، ويرتكبون جرائم طائفيةً في غزواتهم على مناطق الجماعات الأخرى، ويتبنون شعارات طائفية، ويمارسون (بعض) مضامينها، ثم يتهمون المختلفين معهم أو معارضي السلطات الجديدة بأنّ معارضتهم هي معارضة للدولة ذاتها، وأنّ تلك المعارضة ناتجة عن طائفيتهم خصوصًا أو تحديدًا. في المقابل، ثمّة معارضون يتحالفون مع ضباط أسديين قتلة، ويتنكّرون لسوريتهم ويتبرؤون منها ويرفضونها، نظريًّا وعمليًّا، ويرفعون أعلامًا طائفيةً وإسرائيليةً، ويستنجدون بنتنياهو، ويجرؤون، بعد ذلك كلّه، وقبله وخلاله، على اتهام المختلفين معهم، والمخالفين لهم، بالطائفية وعدم الوطنية..!

وطبعًا، كلّ رؤيةٍ طائفيةٍ تبرّر أو تبرئ ذاتها أو تتنكّر لذاتها، من خلال التشديد على أنها مجرّد رد فعلٍ إنسانيٍّ طبيعيٍّ وعادلٍ ومحقٍّ على طائفيةٍ وحشيةٍ استثنائيةٍ وظالمةٍ وغير محقّةٍ من الآخر. والطريف والمُثير للتوتّر والتفكير والاستغراب أنّ معظم متبني الرؤية الطائفية وممارسيها هم من أكثر الأطراف التي تستسهل إجراء المحاكمات لقياس منسوب الوطنية عند الآخرين وتستسهل توزيع تلك الشهادات على "المستحقين" وحجبها عن "الخونة غير المستحقين".

معظم متبني الرؤية الطائفية وممارسيها هم من أكثر الأطراف التي تستسهل إجراء المحاكمات لقياس منسوب الوطنية عند الآخرين

وبسبب التشوّش النظري، والاضطراب العملي، السائدين حاليًّا في سورية، قد يكون ضروريًّا العودة إلى ضبط المفهومين (الطائفية والوطنية) وتعليق الأحكام المعيارية عليهما. وطرح الأسئلة التالية: كيف ولماذا انقلبت الأمور عند كثيرات وكثيرين بحيث أصبحت الوطنية هي المشكلة والطائفية هي الحل؟ كيف يمكن للوطنية، بكلّ أشكالها المُمكنة، أن تكون المشكلة فعلًا؟ وهل يمكن للطائفية أن تكون، بالفعل، الحل، بحيث تتأسّس الأطراف السياسية المُختلفة على أساس الانتماءات الوراثية المختلفة، ويكون هدف كلّ طرف تحقيق أكبر قدر ممكن من مصلحة جماعته، بغضّ النظر عن مصالح الجماعات الأخرى، أو حتى لو كان ذلك على حساب تلك المصالح؟ وهل يمكن للطائفية، فعلًا، أن تكون الحل، بحيث يكون مُمكنًا ومرغوبًا تقسيم البلاد، وإعادة توزيع العباد فيها، وفقًا لانتماءاتهم الوراثية المختلفة؟ وما المشكلة في الرؤية الوطنية تحديدًا؟ هل المشكلة في فكرة الوطنية السورية، بحدّ ذاتها، أم في تجلياتها التاريخية السابقة أو الحالية، أم في ضعف أو انعدام القوى الاجتماعية والسياسية التي تتبناها، فعليًّا؟

الوطنية والطائفية خياران سياسيان. ومن حيث المبدأ، من حقّ كل سوريةٍ أو سوريٍّ اختيار أحدهما أو رفض ذلك التخيير. ولا تروم هذه التدوينة المُتواضعة، حجمًا على الأقل، ترويج الرؤية الوطنية أو إظهار الاعتقاد بأفضليتها، وإنما تهدف إلى توفير الحدّ الأدنى من الضبط المعرفي للمفهومين المذكورين، بحيث يكون كلّ منا قادرًا على أن يكون صادقًا مع نفسه ومع الآخرين في التعبير عن أفكاره، وفي تحديده لخياراته. وبهذا نبتعد عن النقاشات المليئة بالتكاذب، الأخلاقي أو المعرفي، الواعي أو غير الواعي، فلا نعيش في حالة إنكارٍ لما نتبناه نظريًّا و/ أو نمارسه عمليًّا، مع اتهام من يختلف معنا ويُخالفنا به. ومن الناحية المعرفية على الأقل، لا يكمن الهدف الأولي والأهم، حاليًّا، في وجود اتفاقٍ أو اختلافٍ بين الأطراف المتناقشة المختلفة، وإنما يكمن، خصوصًا أو تحديدًا، في فهم كلّ طرفٍ لمواقف الطرف الآخر وأفكاره، وفي فهم كلّ طرفٍ لنفسه ولما يقوله ويفعله، أيضًا. ويبدو أنّ هذا الهدف الأولي عظيمٌ، ولا يسجِّله إلا قلّة من المجتهدين.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".