الفلسطينيون والعنف الجنسيّ
يتداول "الفايسبوكيون" منذ أشهر صور جنود الكيان الصهيوني وهم يستمتعون بمشاهد وقوف الفلسطينيين في العراء، بلا ملابس، ولسان حال هؤلاء يقول: سنذلّكم اليوم، بالكشف عن صدوركم وسيقانكم، وغداً سنعبث بأجزاء حميمة من أجسادكم، وسيكون العري الكامل ممارسةً مفروضةً على الرجال والنساء في المعتقلات.
والواقع أنّ لجوء المؤسّسات العسكرية المحتلّة لأراضي الشعوب إلى مثل هذه الممارسات غير مفاجئ. فمنذ التاريخ القديم، اعتُبر تجريد الناس من ملابسهم وسيلةً من وسائل كسر شوكة الأعداء والتشفّي من صمودهم واستبسالهم في الدفاع عن أوطانهم، وهو أيضاً شكل من أشكال البطش برجولة الآخر وتحويله إلى خاضعٍ أو خصيٍّ أو عبدٍ، ويكفي أن نطلع على الثقافات الإغريقية واليونانية والرومانية والمصرية وصولًا إلى الحروب المعاصرة حتى نتبيّن أنّ اغتصاب الجنود وإجبارهم على اغتصاب الآخرين صار سلاحًا مُعتمدًا في اليابان والكونغو وغيرها.
وفي السياق نفسه، شهد سجن أبو غريب في العراق تنظيم "حفلات عري جماعي" للمعتقلين العراقيين، مكّنت الجنود والجنديات "الغزاة" من الفرجة والاستمتاع والتندّر. ففي ثقافة تُعدّ عري المرء في الفضاء العامّ عارًا وإهانة لا تُنسى، يُفضّل الشيخ/ الأب/ الزوج/.. أن يُقتل على أن يتعمّد الآخرُ الكشف عن عورته والعبثَ بكرامته وإذلاله أمام عائلته وعشيرته، ولذا قُتل المعتقلون مرّتين، رمزيًّا وماديًّا.
منذ التاريخ القديم، اعتُبر تجريد الناس من ملابسهم وسيلة من وسائل كسر شوكة الأعداء والتشفّي من صمودهم واستبسالهم في الدفاع عن أوطانهم
يندرج عري المعتقلين ضمن العنف الجنسي الذي يُعتبر سلاحًا حربيًّا، ويشمل الاغتصاب وإجبار الناس على التجرّد من ملابسهم أو على الاستنماء أو تشويه أعضائهم الجنسية، وغيرها من الممارسات التي لا تحظى، في الغالب، بالدراسة والتحليل من منظورٍ جندري، والحال أنّ تجارب العري القسري في المعتقلات تكشف عن الاختلاف بين الجنسين على مستوى النظرة إلى الجسد والشعور بالخجل وتأثيم الذات والتفاعل مع الوصم الاجتماعي والقدرة على التعافي من الصدمات وغيرها. وليس إجبار الفلسطينيين على التجرّد من ملابسهم إلّا رسالة رمزيّة تتوعّد جميع المقاومين بالمصير الذين ينتظرهم، والمتمثّل في "كسر نواقض الرجولة" وتأنيثهم.
ولا يُفهم هذا السلوك إلّا متى نزّلناه في إطار علاقات القوّة بين المحتلّ/ المستعمِر والمهيمِن/ ... وبين المُهيمَن عليه من جهة، وبناء التراتبيات الهرمية بين الرجال من جهةٍ أخرى. فيتمّ الفرز بين الرجال القادرين على حماية أوطانهم ونسائهم وممتلكاتهم وبين أولئك الذين يصنّفون ضمن العجزة باعتبار أنّهم فقدوا القدرة على الاضطلاع بهذه الأدوار التي تعزّز مكانة الرجال، وكلّ فرزٍ هو تمييز مبنيّ على الثنائيات المتضادة: القويّ/ الضعيف، القادر/ العاجز، المهيمِن/ المهيمَن عليه، الفاعل/ المفعول به... وكلّما اكتسب الرجال صفات تنسبها الثقافة إلى النساء تأنّث وتدنّت منزلته. ولذا قلّما يتحدّث المعتقلون عن العنف الجنسيّ، خاصّة الإذلال الجنسي sexual humiliation الذي تمارسه الجنديات عليهم، فتنقلب الأدوار ويغدو الرجل مفعولًا به وضحية وتتحوّل المرأة إلى فاعلة تبطش بالرجل.
ما يحدث تدمير للذات الإنسانية يتجاوز الجنس والسنّ والعرق والطبقة... هو عنف ممنهج يتعمّد إعادة تشكيل الهُويّات وشطب الذوات ومحو الأثر
ولئن صار بإمكان الرجال تقديم شهاداتهم في المحاكم الدولية، فإنّ التوصيف يختلف بحسب الجنس. فبينما يُعتبر العنف الجنسي من أكثر الممارسات الشائعة بحقِّ النساء (الاغتصاب، التحرّش، تشويه الأعضاء الجنسية...) في بلدان النزاعات والحروب، يُعدّ العنف الجنسي المُمارس بحقِّ الرجال "تعذيباً" أو "أفعالاً غير إنسانية" أو "مسّاً من كرامة المعتقل".. ويترتّب عن هذا التوصيف بناء صورة مختلفة للضحية. فالذي يعنّف ويتحمّل التعذيب يستحقّ التقدير والتبجيل ويتحوّل إلى بطل. أمّا المرأة المُغتصبة والمُشوّهة الأعضاء و... فإنّها تواجه الوصم الاجتماعي وتسيّج داخل دائرة التمثلات الاجتماعية التي تصادر حقّها في الحياة.
تدعونا ممارسة العنف الجنسي في حرب إبادة الفلسطينيين/ات إلى تنزيل الموضوع في إطار مختلف عن السائد، أي التمييز على أساس الجندر وتكتّم الرجال عن هذه التجارب بدعوى أنّ الرجال أشدّاء ويتحمّلون الآلام والتعذيب... ذلك أنّ ما يحدث تدمير للذات الإنسانية يتجاوز الجنس والسنّ والعرق والطبقة... وهو عنفٌ ممنهج يتعمّد إعادة تشكيل الهُويّات وشطب الذوات ومحو الأثر.