المكارثية لا تفنى

24 ابريل 2025
+ الخط -

في خمسينيات القرن الماضي، أشعل السيناتور جوزيف مكارثي نار الشك والاتهامات في أميركا، مطاردًا أشباح الشيوعية بين موظفي الحكومة الفيدرالية، والمثقفين والفنانين، والأساتذة والأكاديميين، والناشطين والنقابيين، وحتى العسكريين والدبلوماسيين، في حملة صيد ساحرات اتسمت بترويج الخوف والاتهام من دون أيّة أدلة، حملة خلقت جوًّا من الارتياب والقمع في المجتمع الأميركي، حيث كانت الشبهة وحدها كفيلةً آنذاك بتحطيم حياة بأكملها. 

لم يخض جوزيف مكارثي حينها معركة ضدّ المدِّ الشيوعي بقدر ما كان يؤسّس لمنهج جديد في قمع الآخر، منهج يعتمد الشبهة بدل الدليل، والتخوين بدل الحوار، والقائمة السوداء بدل النقاش العام. انتهت حقبة المكارثية نظريًا في عام 1954، فبعد سقوط السيناتور مكارثي وفقدانه نفوذه، اختفت المكارثية بوصفها حركة سياسية مؤثّرة، معلنةً نهاية فصول تلك الحقبة، مع بقاء آثارها في الذاكرة الأميركية في فترة مظلمة من الخوف والاضطهاد السياسي، أو هكذا خُيّل لنا.

للأسف، يبدو أنّ المكارثية لم تُدفن مع نهاية ذلك العقد؛ بل بقيت تتسلّل بين الحين والآخر إلى مناطق جغرافية مختلفة من هذا العالم، تتلوّن بألوان العصر وأقنعة الحاجة. واليوم، مع صعود السلطويات القومية والشعبويات المتطرفة شرقًا وغربًا، نجد المكارثية تطلّ علينا بأسلحة مطوّرة تُلوّح بالتخوين، وتُشهر سلاح الاتهام، وتخوض معاركها ضدّ الحقيقة باسم الأمن والوطن والهوية. فهل المكارثية الآن مجرّد تاريخ أميركي أسود؟ أم أننا نشهد انبعاثها؟ لا في أميركا وحدها، بل في ساحات مختلفة حول العالم.

في نسخها المعاصرة تخلّت المكارثية عن حجة الشيوعية واستعاضت عنها بمفردات أكثر طزاجة كالإرهاب، والعمالة، والأجندات الخارجية، والكراهية

المكارثية، فكرةً، لم تختفِ، بل على العكس تطوّرت وامتلكت القدرة على تجسيد أشواكها في أشكال مختلفة في ودياننا الطيّبة، تُمكنها من التكيّف مع متطلبات زمانها ومكانها، بحيث تبقى حيّة في خطاب كلّ من يرى النقد تهديدًا، وفي سلوك من يستبدل المحاججة بالوصم، وفي بنية أنظمة لا تحتمل التعدّد إلا زينةً وإكسسوارًا تجميليًا تتراقص أذنابه على الإيقاع الذي يعزف لهم.

في نسخها المعاصرة تخلّت المكارثية عن حجّة الشيوعية واستعاضت عنها بمفردات أكثر طزاجة كالإرهاب، والعمالة، والأجندات الخارجية، والكراهية، وإثارة الفتنة ونشر الأخبار الكاذبة، وتقويض النسيج الوطني. تتغيّر المصطلحات والاتهامات بمختلف اللغات، لكن الجوهر يبقى هو نفسه، تهمٌ فضفاضة، يطارد بها كلّ من يحاول التفكير بصوتٍ مختلف، ويُحرق كلّ من يحاول كشف عورة المتسلّط. 

وعليه، لم تُغفل سلطويات اليوم الأطر التشريعية، فقامت بليّ عنق القوانين لتكون على مقاسها، فلم تعد هناك حاجة لمحاكم تفتيش أو استدعاءات تلفزيونية، إذ يكفي الآن قانونٌ مطاطٌ تحت مظلّة الأمن القومي أو مكافحة الإرهاب، أو مادة مطاطية يكتنف تفسيرها الغموض في قانون الجرائم الإلكترونية، لتصبح الكلمة جريمة، والرأي المختلف حتى لو كان في وصفة طبق طعام خطرًا على الأمن القومي.

تهمٌ فضفاضة، يطارد بها كلّ من يحاول التفكير بصوتٍ مختلف، ويحرق كلّ من يحاول كشف عورة المتسلّط

وللأسف، تماهى الإعلام المعاصر الذي بات الارتزاق سمته الأبرز مع هذه النسخة الرقمية من المكارثية؛ لا باعتباره سلطةً رقابية، بل بتحوّله لمجرّد أداة تعبئة تخدم المكارثيين الجدد. تُوجّه التغطيات، تُفبرك الصور، وتُطلق الحملات لتشويه الخصوم، وتقديمهم بوصفهم أعداءً للشعب أو أدوات للفتنة، حتى لو كانوا مجرّد أساتذة جامعات أو صحافيين أو طلابًا في فضاء افتراضي.

الرقابة أيضًا أصبحت أكثر شراسةً وخُبثًا. لم تعد تقتصر على المنع والحجب، بل باتت تلاحق التغريدات، تنبش في المنشورات القديمة، وتزرع في النفوس رقابةً ذاتيةً خانقة، فعليك أن تقول ما يُطلب منك، لا ما تؤمن به، أو اصمت، وأحيانًا حتى الصمت لم يعد خيارًا.

ولأنّ الزمان تغيّر، فإنّ المكارثية اليوم لم تعد حكراً على جهة واحدة. إنها تتنقل بين التيارات والأنظمة، اليسارية منها واليمينية، القومية والدينية، في الشرق كما في الغرب. تتغذّى على الخوف، وتتمأسس بهدوء تحت شعارات الحداثة والهوية والاستقرار، حتى باتت جزءًا من البنية لا الاستثناء. فهل ما نعيشه هو عودة للمكارثية أم ترقية لها للنسخة 2.0؟ وهل نحن أمام موجة عابرة، أم بنية سلطوية جديدة تتقن فنّ العزل والتشهير والتخويف من دون أن تترك بصمات واضحة؟ أو هكذا تعتقد. 

في كلّ الأحوال، ما بات جليًا أنّ المكارثية لم تُهزم قط، ولم تُطوَ صفحتها من كتب التاريخ؛ بل تحوّلت إلى عفريت سلطوي قابل للاستدعاء كلما استشعرت السلطة خطرًا من الفكر المقابل، أو خافت من شجاعة الكلمة المعارضة. هي فقط غيّرت جلدها وعادت بثوب مختلف، متخفيّة تحت عباءة القومية أو الدين أو الوطن أو الأخلاق أو القانون، لكنها في جوهرها واحدة: إنّها الخوف والقمع متنكّرين، إنها قلق السلطة من الحقيقة، وقد صار منظومة حكم. وإن لم ننتبه إلى تلك الأقنعة حين تلمع، وما لم نُدرك لغة التخوين حين تتكرّر، فإننا سنرحّب بالمكارثية من دون أن ندري، ونُصفّق لها وهي تلتهمنا، ظنًا منا أننا نحمي أنفسنا من الآخر الشرير. المكارثية لا تفنى، لأنها ببساطة تعرف جيدًا كيف تتجدّد، وتنتظر اللحظة المناسبة لتُطلّ برأسها من جديد، وربما، في أماكن أقرب مما نتصوّر.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.