تجاهل العنف البنيوي ضد المرأة
وفقًا لهيئة الأمم المتحدة للمرأة تُقتل امرأة كلّ عشر دقائق حول العالم، وفي عام 2023 قُتلت 51,100 امرأة من قبل شركائهن أو أحد أفراد العائلة، بينما لا تخلو دولة حول العالم من ظاهرة قتل النساء (Femicide). وبينما تتعالى الأصوات مطالبةً بالإقرار بحقيقة المشكلة، وتطوير التشريعات الرادعة، وشبكات الحماية للضحايا والناجيات، تشتدّ هذه المطالبات كلّ عام في هذه الأيام التي تصادف احتفال العالم باليوم الدولي لمناهضة العنف ضدّ المرأة، ويتزيّن الرجال والنساء المتضامنون بربطات العنق والأوشحة برتقالية اللون كتعبيرٍ عن الأمل في التغيير ودعوة للعمل عبر حملة 16 يوماً ضدّ العنف التي تستمر من 25 نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 10 ديسمبر/ كانون الأول من كلِّ عام.
ولكن الملفت أنّ كثيراً من هذه التوجّهات تُسطّح المسألة وتقصّرها على العنف الفردي المُرتكب من قبل الرجال ضدّ النساء، متجاهلةً العنف البنيوي السياسي الذي ينخر أسس المجتمعات المعاصرة. بالتأكيد أنا لا أقلّل هنا من خطورة العنف الفردي وضرورة العمل الجاد للقضاء عليه، لكني أؤكد أهمية عدم تجاهل خطورة العنف البنيوي السياسي الذي بات المحرّك الرئيسي لمعظم أشكال العنف الأخرى. ففي السنوات الأخيرة بتنا نلاحظ ميل بعض الأنظمة وأذرعها، وحتى العديد من مؤسسات المجتمع المدني، لتأطير العنف ضدّ المرأة بشكلٍ ضيّق باعتباره فعل إساءة منعزلاً، وجرائم فردية يرتكبها بعض الرجال ضدّ النساء في حالاتٍ فردية لا يصح تعميمها على مجتمعاتِ الفضيلة التي نعيش بها على حدِّ قولهم!
هذه المقاربة، في محاولتها معالجة قضية لا يمكن إنكارها، تتجاهل بشكلٍ استراتيجي أشكال العنف الأعمق، والأنظمة التي تديم تهميش المرأة، حيث يستبسل البعض في صرف الانتباه عن تواطئهم بشكلٍ متعمّد أو غير متعمّد في إنشاء ودعم الهياكل ذاتها التي تمكّن مثل هذا العنف وتديمه. فمن خلال سردياتها الانتقائية تسمح الأنظمة والهياكل الأبوية للمسؤولين عن مأسسة العنف البنيوي بتجنّب المساءلة عن القمع المجتمعي والمؤسسي الأوسع نطاقًا للمرأة. والمفارقة هنا أنّ يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني اختير كرمزٍ للمقاومة الشعبية النسوية ضدّ العنف البنيوي السياسي، تكريمًا لثلاث من الأخوات ميرابال من جمهورية الدومينيكان، اللواتي تم اغتيالهن بوحشية عام 1960 بسبب نشاطهن السياسي ضدّ نظام الدكتاتور رافاييل تروخيو!
نحن نعالج أحد الأعراض في تركيزنا على العنف الفردي بدلًا من معالجة أصل الداء المتمثل في العنف البنيوي السياسي المجتمعي
فنحن هنا نعالج أحد الأعراض في تركيزنا على العنف الفردي بدلًا من معالجة أصل الداء المتمثّل في العنف البنيوي السياسي المجتمعي، الذي يشمل التفاوتات المنهجية والممارسات المؤسسية التي تضرّ أو تحرم النساء من حقوقهن وتجعلهن فريسةً للاضطهاد، هذا العنف ضدّ النساء الذي يتجلّى في القوانين التمييزية التي تحدّ من حقوقهن إلى جانب هندسة المجتمعات على أسسٍ تمييزية، يتحوّل لاحقًا إلى نوعٍ من الظلم النظامي الذي ينعكس على فرصهن بالانخراط في المجتمع والحياة العامة والنشاط الاقتصادي وأسواق العمل والمشاركة في الفضاء العام الأوسع حيث تظلّ الفرص المتاحة للنساء غير عادلة.
بالإضافة لذلك، من خلال التركيز فقط على أعمال العنف الفردية، تصوغ الأنظمة والمجتمعات الأبوية سردًا يناسب أجندتها.
أولاً، يعفيهم من أيّ مسؤولية عن الظروف المجتمعية التي تشجّع العنف. فإذا جرى تأطير القضية على أنّها نتيجة "شرذمة من الرجال الأشرار" بدلاً من سياسات أو أنظمة سيئة، فإنّ السلطة وهياكل المجتمعات التقليدية تفلت بسهولة من المساءلة.
ثانيًا، يسمح للسلطة والهياكل المجتمعية بتقديم أنفسهم باعتبارهم الحماة الذين يذودون عن حياض العدالة والمساواة، حيث يسنون تدابير عقابية ضدّ الجناة الأفراد وفي كثير من الأحيان يكون التنفيذ انتقائيًا، مع ترك الأسباب الجذرية للعنف دون مساس. هذا النهج لا يخفي دور السلطة والهياكل المجتمعية في إدامة عدم المساواة فحسب، بل إنه يديم أيضًا دورة العنف من خلال تجاهل أصولها الهيكلية.
ما زال التوظيف السياسي للعنف يتجلّى في أبشع صوره في النزاعات المسلحة، حيث تُستخدم النساء كأهداف للعنف ووسيلة للإذلال الجماعي والسيطرة
وعند الحديث عن العنف السياسي، فإنّنا لا نستطيع تجاهل غياب التمثيل السياسي الحقيقي للنساء في كثير من البلدان، واستبعادهن من مراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ممّا يؤدي إلى إهمال قضاياهن في التشريعات والسياسات، على الرغم من محاولات كثير من الأنظمة تبييض صورتها عبر استخدام النساء ضمن بنى تجميلية كأداة للدعاية دون تمكين حقيقي.
وللأسف، ما زال التوظيف السياسي للعنف يتجلّى في أبشع صوره في النزاعات المسلحة، حيث تُستخدم النساء كأهداف للعنف ووسيلة للإذلال الجماعي والسيطرة، حيث يؤدي غياب آليات الحماية في مناطق الحروب إلى تعرّض النساء لأشكالٍ مضاعفة من العنف، كما تبيّن جرائم الاحتلال الصهيوني في غزّة التي يدعمها الغرب حامي حمى النساء! أو جرائم الحرب في السودان. وبشكل عام، فإنّ قمع حقوق الإنسان بأيّ صورةٍ سيؤثر بشكلٍ أكبر على الفئات الأكثر هشاشةً، وعلى رأسها النساء والأطفال.
يؤدي غياب آليات الحماية في مناطق الحروب إلى تعرّض النساء لأشكال مضاعفة من العنف
وعند الحديث عن البيئات التشريعية التي تعزّز العنف البنيوي السياسي ضدّ المرأة والإنسان بشكلٍ عام، فإمّا أنّ القوانين التي تحدّ من هذا العنف غير موجودة أصلًا، أو صيغت بطرق فضفاضة ضبابية أفرغتها من قوّتها الرادعة، أو أنه يتم تطبيقها بشكلٍ سيئ يخالف روح القانون، ولربما نصّه أيضًا، بحيث لا تعود هذه الفجوات في الحماية القانونية حوادث أو أخطاء فردية فقط، بل تتحوّل إلى خياراتٍ متعمّدة تعكس استراتيجية أوسع للحفاظ على السيطرة الأبوية. حتى في الحالات التي يتم فيها سن بعض الإصلاحات القانونية، غالبًا ما تكون مصحوبة بحملاتٍ إعلامية تركز على المساءلة الفردية، وتتجاهل التحوّلات الثقافية والمجتمعية والمؤسسية الأوسع اللازمة لجعل هذه الإصلاحات فعالة.
إنّ العنف البنيوي ضدّ المرأة هو أحد أعراض الخلل الاجتماعي الأوسع نطاقًا، الناتج عن السلطوية والفساد وعدم المساواة والهياكل الذكورية والقمع الذي يضرّ بالجميع. إنّ معالجة هذه القضايا تتطلّب معالجة الجذور وتفكيك الهياكل التي تدعمها، وليس مجرّد معاقبة فرد هنا أو هناك بعد وقوع جريمة شنيعة تهزّ الرأي العام، بل يحتاج الأمر تحوّلًا في التركيز من تدابير ردّ الفعل إلى الإصلاحات الاستباقية الهيكلية، ومن تجريم أعمال العنف فقط إلى تحدي الهياكل التي تجعلها طبيعية، بحيث تتجاوز مناهضة العنف ضدّ المرأة الفرد إلى المؤسّسات، وتتجاوز المرئي إلى الهيكلي. وأيّ شيء أقل من ذلك هو تجاهل خطير لأساس المشكلة، تجاهل يقوّض أسس العدالة والمساواة للجميع.