تحرير التعليم من شَرَك التوظيف
يروّج كثيرون هذه الأيّام لمصطلح التعليم من أجل التوظيف باعتباره الحلّ السحري لمعضلة البطالة، خصوصًا في الدول النامية، وذلك عبر تصوّر يقوم على ربط التعليم مباشرة باحتياجات سوق العمل من مهارات ويد عاملة، من خلال ما يسمّى ببرامج المواءمة، وسدّ الفجوة بين التعليم وسوق العمل، ودفع الطلاب في مسارات تعليمية محدّدة توافق متطلبات المشغلين. لكن خلف هذا المصطلح المُشرق ظاهريًا، تكمن عدّة إشكاليات فلسفية وإنسانية، تنخر أساس فكرة التعليم ذاتها.
يسعى التعليم من أجل التوظيف إلى تحويل الإنسان إلى مجرّد سلعة قابلة للتوظيف، فبدل أن يكون التعليم مشروعًا لتحرير الإنسان وتمكينه من فهم العالم والمساهمة في تغييره نحو الأفضل، يصبح التعليم مجرّد وسيلة لتصنيع منتَج بشري جاهز للتشغيل. ففي هذه الرؤية، يجري اختزال الإنسان مُدْخلاً في معادلة إنتاجية رأسمالية.
أفرغت الرأسمالية مفاهيم المواطنة، والوعي، والحرية، من معناها لصالح الربح
ويمتدّ التسليع إلى سلعنة المعرفة وتحويلها إلى أدوات وظيفية فقط، ضمن عملية يجري فيها تقزيم مجالات العلوم الإنسانية مثل الفلسفة، والآداب، والفنون، والعلوم الاجتماعية وغيرها لأنها لا توظّف مباشرة. وكأنّ المعرفة التي لا تدر دخلًا عاليًا ولا تسهم في زيادة أرباح رأس المال والسلطة لا تستحق أن تُدرّس!
ناهيك عن أنّ هذا التوجّه يُكرّس تبعية عمياء لمنطق السوق، ويُعيد إنتاج رؤية اختزالية للواقع الاجتماعي والاقتصادي، ترى في السوق مرجعًا كليًا لا يُرد له أمر، ولا يُساءَل، بل يُطاع ويُتّبع كما لو كان تجليًا للحكمة المُطلقة. في هذا المنطق، يُعامَل السوق بوصفه كيانًا محايدًا، عادلًا، لا يخطئ، تتكيّف له الأنظمة، وتخضع له السياسات، بل وتُشكّل لأجله المناهج التربوية وتُصاغ وفق شروطه. ولعل الخطر الأكبر يكمن في أن هذا التصوّر يُزيّف العلاقة الطبيعية بين الإنسان والسوق: فبدل أن يكون السوق وسيلة تخدم حاجات الإنسان المتعدّدة، يصبح الإنسان ذاته وسيلة لإدامة آليات السوق وتوسيع شبكته، فحين يُختزل التعليم بكونه مجرّد أداة لإنتاج قابلية العمل والاستهلاك، نفقد غايته الأسمى بوصفه مجالاً لإنتاج الإنسان المفكّر، الواعي، الحر، القادر على الفعل وإيجاد المعنى. وليس الإشكال هنا في أن يُمكّن التعليم الفرد من دخول سوق العمل، بل في أن يصبح هذا هو المعيار الوحيد لجدواه. فنحن بذلك ننتقل من تربية المواطن العاقل إلى تصنيع الفرد النافع، ومن صناعة الحياة المشتركة إلى صيانة دورة الإنتاج والاستهلاك، في انتكاسة فلسفية تُفرغ التعليم من بعده الإنساني والتنويري، وتحوّله إلى ممارسة تقنية محضة، تُسهم لا في تحرير الإنسان، بل في تعميق اغترابه عن ذاته وعالمه.
لم يهدف التعليم يومًا في جوهره إلى ملء العقول بالمعلومات، بل إلى إشعال العقول بالشغف والقدرة على فهم الحياة واعتناقها
غالبًا ما يتبنى أنصار هذا الطرح نظرة أداتية للإنسان، فهو ليس مواطنًا، ولا كائنًا حرًا يسعى لتحقيق ذاته، بل أداة إنتاج، تُختزل كرامته في قدرته على توليد قيمة اقتصادية. وهذا امتداد مباشر لفكر الرأسمالية التي أفرغت مفاهيم المواطنة، والوعي، والحرية، من معناها لصالح الربح.
ليس بالضرورة أن يكون التعليم من أجل التوظيف شيئًا سيئًا بالمطلق، فالإشكالية مرّةً أخرى ليست في ربط التعليم بسوق العمل فهذا جزء مشروع من منظومة التعليم، ولكن الكارثة في حصر التعليم فقط في هذا البُعد. فليس المطلوب رفض التعليم من أجل التوظيف، بل تجاوزه إلى تعليم من أجل الإنسان، ليبقى السؤال أي تعليم نريد؟
لم يهدف التعليم يومًا في جوهره إلى ملء العقول بالمعلومات، بل إلى إشعال العقول بالشغف والقدرة على فهم الحياة واعتناقها. نحن بحاجة إلى تعليم يُخرج الإنسان لا العامل فقط، ويُنمّي في الفرد القدرة على احترام الحقوق، والشعور الإنساني، وتقدير الجمال، وطرح الأسئلة لا حفظ الأجوبة، والسعي للحرية لا للطاعة، والتفكير النقدي لا التلقين، نسعى لتعليم يمكّن الإنسان من عيش الحياة بكلّ أبعادها لا مجرّد العيش لأجل الراتب.