ترامب وجامعة هارفارد وسلطة المعرفة
منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض شهد النظام الدولي قرارات عديدة ومتناقضة على مستويات وصُعُد مختلفة، داخلياً وخارجياً. وهذه القرارات، كان لها تأثير كبير فعلاً على الأوساط المعرفية والمجتمعية، بحيث وصف أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة شيكاغو البروفيسور جون ميرشايمر، في مقابلة له، قرارات ترامب بالسلوكيات غير العقلانية والقرارات غير المنطقية التي لا تسفر سوى عن الفوضى.
ومن بين آخر قرارات ترامب المثيرة للجدل هو إعلانه تجميد 2.2 مليار دولار من المنح الفيدرالية المخصّصة لجامعة هارفارد؛ بسبب رفض هذه الأخيرة مطالب الحكومة بتغيير سياستها ومعاقبة الطلاب المشاركين في المظاهرات احتجاجاً على الإبادة الصهيونية على قطاع غزّة، وهو ما اعتبرته الجامعة تدخلاً في استقلالها بوصفها مؤسّسةً أكاديمية، وانتهاكاً لحقوقها الدستورية.
إنّ محاولة الحكومة الأميركية محاربة أفكار الجامعات كونها تتعارض مع توجّهات الحكومة تعيدنا إلى إحدى أهم الأدبيات في سبعينيات القرن الماضي التي تحدثت عن جدلية السلطة والمعرفة، ونعني كتاب "المعرفة والسلطة" للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
سلطة المعرفة عند ميشيل فوكو
قدّم ميشيل فوكو مفهوماً جديداً للسلطة، إذ كان المفهوم التقليدي السائد آنذاك هو مفهوم الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي حصر السلطة في الجانب السياسي (تحكّم الدولة أو سيادة القانون أو قدرة القمع أو قدرة المنع فحسب)، بينما اعتبر فوكو أنّ السلطة تحكمها علاقات متعدّدة القوى من خلال تفاعل الجميع في "بنية السلطة"، بمعنى أنّ السلطة موجودة في كلّ مكان ومنتشرة في كلّ ذرة من ذرات الجسد الاجتماعي، وهو ما أطلق عليه مصطلح "ميكروفيزياء السلطة". وبالتالي؛ فهو حوّل مفهوم السلطة من المركزية السياسية إلى الشمولية الاجتماعية، التي تعني أنّ الجميع له قدرة على ممارسة السلطة، وأنّ كلّ المؤسسات بأنواعها هي مؤسسات سلطوية، بما في ذلك المدرسة/ السجن، المدرسة/ الجامعة، وكلّ المؤسّسات المعرفية.
المعرفة ليست مستقلة لأنّها دائماً تتعرّض إلى الضغوط من السلطة الخارجية
ما يعني أنّ المعرفة والسلطة متلازمتان جوهرياً؛ لأنّ المعرفة ليست محايدة أو بريئة، بل هي نتاج خطابات معيّنة تنتجها مؤسّسات، كما يوضّح الكاتب أنّ السلطة لا تمارس في نطاق القوّة الجبرية فحسب، بل عبر إنتاج المعرفة التي يُنظر بها إلى الأفراد والمجتمعات وتحدّد ما هو منطقي وما هو غير منطقي.
بالعودة إلى جزئية الجامعات بوصفها مؤسّساتٍ معرفيةً، فإنّ فوكو يعتبر الجامعة المصدر الرئيسي لإنتاج المعرفة، إذ تشكّل الخطابات الأكاديمية وجهات نظر حول قضايا مثل السياسة، والأخلاق والعدالة، لكنّ هذه المعرفة ليست مستقلة لأنّها دائماً تتعرّض إلى الضغوط من السلطة الخارجية كالحكومات أو اللوبيات الموجودة داخل الدولة لإعادة ضبط الخطابات التي تنتجها وفق تصوّراتها.
كيف يمكن أن نفسّر وقف دعم جامعة هارفارد من منظور فوكو؟
يمكن تفسير ما حصل بأنّ سلطة ترامب تحاول ضبط الخطاب الأكاديمي وإعادة تشكيل المعرفة وفق الأجندة السياسية للحكومة، التي تُظهر دعماً للاحتلال الصهيوني على حساب القضية الفلسطينية، بحيث أصبحت الأفكار التي تنتجها جامعة هارفارد والمناقضة لرواية الحكومة الأميركية تهدّد هيمنة السلطة على إنتاج المعرفة، ولهذا؛ فإنّ تجميد التمويل، الذي هو شكل من أشكال العقاب لا يسعى إلّا إلى تحقيق أهداف أوسع من أن تكون مجرّد معاقبة الطلبة، وهي إجبار هارفارد وغيرها من المؤسّسات المعرفية على تعديل سياستها وخطابها وفق معايير تحدّدها الحكومة وفق مصالحها.
ختاماً، إنّ الصراع بين جامعة هارفارد وإدارة ترامب يمكن أن يؤدي بنا مستقبلاً إلى احتمالَين؛ الأوّل هو مقاومة الجامعة ضدّ السلطة من أجل الحفاظ على استقلالية الجامعات بوصفها مؤسّسات لإنتاج المعرفة الحرّة بعيداً عن أيّ تدخل، والثاني هو طريق التطبيع أو "الانضباط" حسب فوكو، أي إجبار هارفارد على قبول سياسات الحكومة ما يؤدي إلى انحسار أفكار ومواقف المعارضة في جميع المؤسّسات المعرفية، وتكريس هيمنة السلطة على المعرفة.