الليبراليون العراقيون والانتخابات: رهانات التغيير في نظام مأزوم

12 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 11:36 (توقيت القدس)
+ الخط -

منذ التحول السياسي الذي أعقب الغزو الأميركي للعراق

عام 2003، شهد البلد تجارب انتخابية متكررة بدت في ظاهرها ترجمة لمسار ديمقراطي ناشئ، لكنها في الواقع أعادت تدوير الطبقة السياسية نفسها، التي أسست نظاماً قائماً على المحاصصة الطائفية والإثنية. في هذا السياق، حاول الليبراليون العراقيون، بمشاربهم المختلفة، أن يجدوا لأنفسهم موطئ قدم، سواء بإنشاء أحزاب مدنية، أو التحالف مع قوى احتجاجية، أو خوض الانتخابات بصيغ مستقلة. لكن النتائج، وعلى مدار عقدين، لم تكن مشجعة، بل عكست حجم التحديات البنيوية التي تواجه هذا التيار في بيئة سياسية مأزومة.

تعاني القوى الليبرالية في العراق من مشكلات مزمنة، أبرزها ضعف التنظيم، وتشتت الطروحات، وقلة التمويل، إضافة إلى غياب مشروع سياسي متكامل يترجم المبادئ الليبرالية إلى برامج واقعية تقنع الناخب العراقي. هذه العوامل، مع بيئة انتخابية غير متكافئة، جعلت المشاركة الليبرالية تجربة تتكرر من دون نتائج ملموسة. ومع كل دورة انتخابية، يُطرح السؤال نفسه: هل يمكن لليبراليين أن يكونوا طرفاً فاعلاً في المشهد السياسي العراقي، أم أن طبيعة النظام تمنع صعودهم؟

في الانتخابات المقبلة، تبرز قائمتان تمثلان جزءاً من الخطاب الليبرالي أو العلماني: "تحالف البديل" و"التحالف المدني الديمقراطي". ورغم أن وجودهما يمثل محاولة لإحياء الصوت المدني داخل البرلمان، إلا أن فرصهما تبدو محدودة. وتشير التوقعات إلى أن تحالف البديل ينافس في ثلاث محافظات رئيسية (بغداد، النجف، وواسط)، وقد يتمكن من الحصول على ثلاثة مقاعد. أما التحالف المدني الديمقراطي، الذي يخوض المنافسة في بغداد، النجف، وذي قار، فتقدَّر حصته المحتملة بمقعد واحد فقط. أربعة مقاعد متوقعة، في برلمان يضم 229 نائباً، تثير تساؤلات جدية حول جدوى المشاركة من الأساس.

تعاني القوى الليبرالية في العراق من مشكلات مزمنة، أبرزها ضعف التنظيم، وتشتت الطروحات، وقلة التمويل، إضافة إلى غياب مشروع سياسي متكامل يترجم المبادئ الليبرالية

ليست هذه المرة الأولى التي يشارك فيها الليبراليون في الانتخابات العراقية. فمنذ 2005 ظهرت تحالفات وتيارات مدنية عدة، أبرزها "القائمة العراقية" بقيادة إياد علاوي

في 2010، التي قدمت نفسها بديلاً عن الطائفية السياسية، لكنها سرعان ما انزلقت إلى حسابات التحالفات التقليدية. لاحقاً برزت مبادرات أصغر، مثل "التحالف المدني الديمقراطي" في انتخابات 2014 و2018، و"حركة امتداد" و"نازل آخذ حقي" بعد احتجاجات تشرين 2019، لكن أياً منها لم يحقق اختراقاً سياسياً جوهرياً.

اعتُبرت انتفاضة تشرين محطة مفصلية في المسار المدني، إذ خرج آلاف الشباب مطالبين بدولة مدنية، وبإنهاء النفوذ الإيراني، ومحاسبة الطبقة السياسية. هذا الحراك كشف عن حجم الغضب الشعبي، وفتح نافذة أمل للقوى الليبرالية لتمثيل هذا التغيير. لكن الزخم لم يُستثمر بالشكل المطلوب. ففي انتخابات 2021، وصل عدد من المرشحين المستقلين والمدنيين إلى البرلمان، لكنهم فشلوا في تشكيل جبهة معارضة موحدة؛ بعضهم انجرّ إلى تحالفات تقليدية، وآخرون تعرضوا لضغوط سياسية، ما أدى إلى تآكل ثقة الجمهور المدني.

كما أن العوائق البنيوية تحول دون مشاركة حرة وعادلة في الانتخابات. فالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، رغم استقلاليتها المعلنة، تخضع في الواقع لتأثيرات سياسية مباشرة. وسُجلت حالات استبعاد لمرشحين لأسباب وُصفت بالانتقائية، سواء عبر "هيئة المساءلة والعدالة" بدعوى الانتماء لحزب البعث، أو نتيجة شكاوى من جهات حزبية نافذة. هذه الممارسات تجعل الانتخابات أداة لضبط التوازنات القائمة، لا لإنتاج بدائل سياسية حقيقية.

وتتفاقم الصعوبات مع غياب احتكار الدولة للعنف، إذ لا تزال بعض الأحزاب تمتلك فصائل مسلحة تستخدم العنف أداةَ ضغط سياسي، خصوصاً عند الخسارة أو الطعن في النتائج. هذا الواقع يُفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها، ويحرم القوى الليبرالية من بيئة تنافسية عادلة.

يعاني التيار الليبرالي من غياب التأطير النظري الواضح، إذ تُتهم المبادرات المدنية بالتغريب أو بمعاداة الهوية الدينية

إلى جانب ذلك، يعاني التيار الليبرالي من غياب التأطير النظري الواضح، إذ تُتهم المبادرات المدنية بالتغريب أو بمعاداة الهوية الدينية، وهي اتهامات يروّج لها الخطاب الإسلاموي. ووفق دراسة لـ"فريدوم هاوس"، يوصف العراق بأنه "حر جزئياً"، ويعاني من اختلالات عميقة بين الحريات الفردية والضمانات القانونية. كما أشار تقرير لمركز "كارنيغي للشرق الأوسط" (2020)، للباحث حارث حسن، إلى أن القوى المدنية "تفتقر إلى الحواضن الاجتماعية، وتعاني من الانقسام بين النخبويين والتطبيقيين، ما يمنع تشكل حركة ليبرالية جماهيرية".

ورغم هذا المشهد القاتم، لا يمكن القول إن الليبرالية بلا قاعدة اجتماعية في العراق؛ فهناك شرائح واسعة من الشباب، والطبقة الوسطى، والمهنيين، والنساء، تطمح إلى دولة مدنية تضمن الحقوق والخدمات والحريات. لكن هؤلاء يفتقرون إلى تمثيل سياسي حقيقي، ما يدفعهم للعزوف عن المشاركة، أو التصويت تكتيكياً للأقل سوءاً، أو الانجذاب لاحقاً للتيارات التقليدية.

ومع كل انتخابات، يتجدد الجدل: هل المشاركة فعل سياسي مجدٍ، أم أنها تمنح شرعية زائفة لنظام مغلق؟ وإن كانت المشاركة مطلوبة، فكيف تُنظم لتحقيق نتائج ملموسة؟ الإجابة لا تتوقف على الأرقام وحدها، بل على الأداء والقدرة على استثمار حتى الهامش الضيق المتاح. فحتى لو حصل الليبراليون على أربعة مقاعد، يمكن لهذه الأصوات أن تؤدي دوراً رمزياً ورقابياً مهماً، شرط أن تحافظ على خطاب واضح، وعلاقة شفافة مع الجمهور، وتبتعد عن التنازلات السياسية التي أضعفت من سبقهم.

ما يحتاجه التيار الليبرالي ليس مجرد مرشحين، بل مشروع سياسي طويل الأمد، يبدأ من القاعدة، من الجامعات، والنقابات، والمجالس المحلية، ويصوغ خطاباً ليبرالياً بمرجعية عراقية. عليه الربط بين الحرية الفردية ومكافحة الفساد، وبين الاقتصاد الحر وتوفير فرص العمل، وبين الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية، لإقناع الشارع بأن الليبرالية ضرورة حياتية وليست ترفاً فكرياً.

في المحصلة، لا ينفصل مصير الليبرالية عن مصير الديمقراطية نفسها في العراق. فإذا استمر النظام قائماً على الزبائنية والمحاصصة والسلاح، سيظل أي تيار إصلاحي محاصراً. ومع ذلك، فإن الانكفاء ليس خياراً؛ فخوض الانتخابات بخطاب مختلف، وممارسة رقابة برلمانية جادة، يظل جزءاً من بناء وعي تراكمي قد لا يثمر اليوم، لكنه يزرع بذور التغيير.

في بلد فقد فيه المواطن ثقته بالمؤسسات، تصبح السياسة النظيفة شكلاً من أشكال المقاومة. والليبرالية، رغم ما يقال عنها، تبقى من أكثر الخيارات عقلانية لعراقٍ أنهكته الهويات الضيقة، ويحتاج إلى دولة ترعى الجميع لا طائفة أو عشيرة.