سورية الجديدة: من النموذج الإيراني إلى التركي
منذ اندلاع الثورة السورية، لعبت تركيا دورًا محوريًّا في دعم المعارضة سياسيًّا وعسكريًّا، حتى أصبحت المظلّة الأساسية التي تستند إليها في إدارة شؤون المناطق الخاضعة لسيطرتها. وبسبب محدودية خبرة المعارضة في إدارة الدولة، بات الاعتماد على أنقرة شبه كامل في مختلف الملفات السياسية والاقتصادية والإدارية.
ومع سقوط نظام الأسد، اتجهت القيادة السورية الجديدة نحو أنقرة طلبًا للدعم في إدارة شؤون البلاد، في ظلّ نقص حاد في الكوادر والخبرات، وتراكم إرث طويل من الفساد والتخلّف الإداري الذي خلّفه النظام السابق.
النهج التركي: مرونة وتكيّف
تتبنى تركيا في سورية مقاربة مُغايرة تمامًا للنموذج الإيراني، تقوم على بناء منظومة حكم مرنة قابلة لإعادة الهيكلة بشكل مستمر، بحيث يمكن تغيير أيّ منصب (حتى رئاسة الجمهورية) إذا اقتضت الضرورة. تمنح هذه الاستراتيجية أنقرة قدرة عالية على التكيّف مع المتغيرات، سواء كانت داخلية أم نتيجة ضغوط المجتمع الدولي.
تتبع أنقرة أسلوبًا يقوم على إعادة توزيع الأدوار والوجوه بما يخدم مصالحها، من دون الارتهان لشخصية سياسية بعينها
ولا يقتصر هذا النهج على سورية، بل يتجلّى أيضًا في التجربة التركية بليبيا، ولا سيما في غرب البلاد، حيث تتبع أنقرة أسلوبًا يقوم على إعادة توزيع الأدوار والوجوه بما يخدم مصالحها، من دون الارتهان لشخصية سياسية بعينها. ويحظى هذا الأسلوب بقبول نسبي في الأوساط الغربية ذات التوجّه الديمقراطي، بينما يلقى فتورًا لدى الجمهوريين في الولايات المتحدة واليمين الأوروبي، الذين يميلون إلى النماذج الهرمية الصارمة.
النهج الإيراني: مركزية الزعيم وثبات البنية
على النقيض، اعتمدت إيران في سورية إبّان حكم النظام السابق نموذج حكم هرمي صارم يقوم على بقاء رأس الهرم لضمان استمرار المنظومة بأكملها. ويشبه هذا النموذج تجربة حزب الله في لبنان، حيث تُقدَّس شخصية الزعيم وتُربط شرعية النظام السياسي بوجوده.
ورغم أنّ هذا الأسلوب يوفّر قدرًا من الثبات والولاء، فإنّه يجعل المنظومة عرضة للاهتزاز الحاد عند غياب القائد أو اغتياله، كما ظهر في حالة الارتباك التي أصابت حزب الله عند فقدان بعض قادته البارزين، ما انعكس مباشرة على أدائه التنظيمي وقدرته على المبادرة. وقد استفادت إيران من هذه التجربة لاحقًا، خصوصًا بعد الضربات الإسرائيلية، إذ اتخذت إجراءات لحماية قياداتها من اغتيالات جماعية قد تؤدي إلى خلل أو فوضى مُتسلسلة تهدّد استقرار البلاد.
تراهن تركيا على بناء مؤسسات سياسية مرنة وقابلة للتطوير، بينما تربط إيران مشروعها برمزية القائد واستمراريته
ورغم تمسّكها بمبدأ مركزية الزعيم، أبدت طهران بعض المرونة في حالات استثنائية، كما حدث في العراق عندما تخلّت عن دعم نوري المالكي لصالح حيدر العبادي، المُنتمي إلى الحزب نفسه والنهج الموالي لإيران. تجربة كهذه يمكن أن تشكّل نموذجًا قابلًا للتطوير إذا ساهمت في تخفيف الاحتقان الداخلي.
مؤسسات أم أشخاص؟
يكمن الفارق الجوهري بين النموذجين التركي والإيراني في فلسفة الحكم ذاتها. فتركيا تراهن على بناء مؤسسات سياسية مرنة وقابلة للتطوير، بينما تربط إيران مشروعها برمزية القائد واستمراريته. وبينما يحظى النهج التركي بقبول أوسع لدى القوى الغربية، يميل صانعو القرار في روسيا والصين إلى تفضيل النموذج الإيراني الأكثر صلابة من حيث البنية، وإن كان أقلّ مرونة في مواجهة التحوّلات.
على المدى القصير والمتوسّط، يمكن أن يمنح النظام الهرمي استقرارًا نسبيًّا، لكن على المدى الطويل ترجح الكفة للنموذج المرن بفضل قدرته على التكيّف مع المتغيرات وضمان الاستمرارية في ظلّ الأزمات.