سورية.. ولادة وطن أم إعلان نهايته؟

08 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 18:35 (توقيت القدس)
+ الخط -

هل عادت سورية إلى شعبها أم انتهت إلى الأبد؟

هذا السؤال مطروحٌ بجديةٍ، منذ سقوط/ إسقاط النظام الأسدي، على الرغم من أنّ كثيرات وكثيرين يرونه سؤالًا بلاغيًّا، بمعنى أنّه توجد إجابةٌ واحدةٌ صحيحةٌ عنه، وهي، من وجهة نظرهم، معروفةٌ لدرجة أنّها لا تحتاج إلى أن تُذْكر. الطريف في الأمر أنّ هناك انقسامًا كبيرًا وواضحًا بين طرفين رئيسين يتبنى كلٌّ منهما إجابةً مختلفةً عن إجابة الطرف الثاني، بل مُضادةً أو مُناقضةً لها. فمن جهةٍ أولى، هناك من لديه "انطباعٌ واحدٌ لا غير: "لقد عادت سورية إلى أبنائها وشعبها رغم بطء خطواتها وتعثّرها". ومن جهةٍ ثانيةٍ، هناك من يرى أن "إكرام سورية والوطنية السورية يكون من خلال دفنهما، بعد أن أطلقت السلطات الجديدة رصاصة الرحمة أو القسوة عليهما وبعد أن تعرّضتا لاستباحة طويلة وتمّ التمثيل بهما (ولاحقًا بجثتيهما) لعقودٍ طويلة". الطرافة تكمن في أنّ كلا الطرفين يقدّم إجابته عن السؤال المذكور، بوصفها الإجابة الوحيدة المعقولة أو الصحيحة، وكلّ ما عداها مجرّد أوهامٍ تعبّر عن أحلام أو كوابيس الطرف الآخر. وتزداد الطرافة في حال أدركنا أنّ ثمّة قدرًا من المعقولية في كلتا الإجابتين، على الرغم من تناقضهما، وبسبب هذا التناقض أيضًا، وأنّ الصحة الجزئية والنسبية لكلّ منهما لا تنفي أنّ كليهما يقع في خطأ تحويل ما هو جزئيٌّ ونسبيٌّ إلى كليٍّ وشاملٍ.

"سورية لينا وما هي لبيت الأسد"

هذه هي العبارة التي كنت أردّدها (مع كثيرات وكثيرين) وأشعر أنّ مضمونها قد تحقّق، بعد سقوط النظام الأسدي. وكان ذلك هو ما أردت أن أشعر به في سورية وأتأكّد منه، خلال زيارتي لها، بُعيد سقوط النظام ببضعة أسابيع. ومن المعروف أنّ هذه العبارة كانت إحدى شعارات الثورة السورية وكانت أو أصبحت جزءًا من الكثير من الأهازيج والأغاني، في أثناء الثورة وبُعيد سقوط النظام. لكن العبارة تتضمّن فكرتين لا تتلازمان بالضرورة. صحيح أنّ سقوط "سورية الأسد" كان وما زال شرطًا لقيام "سورية الوطن"، لكن هذا الشرط ضروريٌّ وليس شرطًا كافيًا. وفي الفترة التالية على ذلك السقوط، ساد الشعور بأنّ سورية قد أصبحت "لينا، نحن السوريات والسوريين"، لمجرّد أنها لم تعد لبيت الأسد، ولمجرّد أنّ السوريات والسوريين، في سورية، ما عادوا خاضعين لنظام الأسد. وتعزّز هذا الشعور بنشوء بوادر نظامٍ سياسيٍّ كان له فضلٌ في سقوط/ إسقاط نظام الأسد، وأعلن تبنيه لعلم الثورة و(بعض) قيم الثورة وأهدافها، وتصرّف خلال عملية التحرير، وفي الأسابيع الأولى اللاحقة، بطريقةٍ مُفاجئةٍ جدًّا بإيجابياتها، ومشجعّةٍ جدًّا على انبثاق آمالٍ بأن يسهم هذا النظام في السير بسورية في الطريق الطويل والشاق الذي يفصل بينها وبين أن تكون دولةً بالحدّ الأدنى، وبالمعنى الإيجابي، للكلمة، وأن تكون وطنًا لكلّ السوريات والسوريين. وأسهم الدعم الدولي والإقليمي والعربي لذلك النظام، والقيام بتحرير السجون والمعتقلات (الأمنية) وملاحقة بعض المجرمين الأسديين، واعتقال/ ومحاكمة بعضهم، في تعزيز ذلك الرأي الذي يجد السند الشعبي الأكبر له لدى العرب السنة عمومًا، ولدى أولئك القاطنين في تلك المنطقة المُهيمنة تاريخيًّا في سورية، وعليها، والمُمتدّة من حلب وإدلب شمالًا إلى درعا جنوبًا، مرورًا بحماة وحمص ودمشق، خصوصًا. ففي تلك المناطق، وفي غيرها عمومًا، بدأ الناس يعودون أو يفكّرون في العودة إلى بيوتهم وأراضيهم وقراهم ومدنهم التي هجروها. وينطبق ذلك خصوصًا على من يعاني ظروف السكن في المخيمات أو ظروفًا معيشية صعبةً في دول الجوار (لبنان والأردن وتركيا).

صحيح أنّ سقوط "سورية الأسد" كان وما زال شرطًا لقيام "سورية الوطن"، لكن هذا الشرط ضروريٌّ وليس شرطًا كافيًا

سورية لن تعود/ تكون ويجب ألّا تعود/ تكون

المتبنون لهذا الرأي يأخذون على جماعة "لقد عادت سورية إلى أبنائها وشعبها ..." ما يرونه تغاضيًا أو تجاهلًا لأبسط الوقائع والمعلومات، عمومًا، وللتطوّرات السلبية الحاسمة التي حصلت في الأشهر الأخيرة، خصوصًا. فمن ناحيةٍ أولى، لم يترك النظام الأسدي سورية إلا وقد استحالت ركامًا ممزّقًا، فالأرض مُمزّقة بين سلطات مُتعارضةٍ ومؤسسات الدولة منهارة أو في حالة يُرثى لها، ولا يتعلّق الأمر بالمؤسسات العسكرية والأمنية وما شابه، فحسب، بل يطاول كلّ مؤسسات الدولة، سواء المؤسسات الخدمية المختصة بالكهرباء والمحروقات والمياه والطرقات ... إلخ، أو المؤسسات التربوية والتعليمية المتعلّقة بالمدارس والجامعات، أو المؤسسات الصحية ... إلخ. وليس هناك قوّة واحدة يقرّ الجميع بشرعيتها في السيادة واحتكار العنف، بل ثمّة الكثير من القوى والفصائل غير المُنضبطة، وليس لدى سلطة الأمر الواقع في دمشق القدرة على أن تفرض سيطرتها، ليس على كلّ الجغرافيا السورية فحسب، بل حتى على الفصائل المُفترض أنها تابعة أو خاضعة لها وتأتمر بأمرها. وإضافةً إلى النشأة المشبوهة والتاريخ الأسود لهذه السلطة وللفصائل التابعة لها، فإنّ حاضرها ليس أقلّ سوءًا من ماضيها، في بعض السياقات. فبعد البداية المبشِّرة المذكورة، كشّرت بعض قوى السلطة عن أنيابها في أوّل فرصةٍ سانحةٍ، وغرزتها في جسد ما تبقى من الوطنية السورية. وقد فعلت ذلك، على سبيل المثال، في حالتين واضحتين: في التعامل الوحشي مع (بعض) العلويين، منذ هجمات الفلول، وفي غزوة السويداء المشؤومة. وهناك خشيةٌ من تكرار أفعالٍ ومجازر مُماثلةٍ في المعركة مع قوات سوريا الديمقراطية في الجزيرة السورية، وفي مدينة حلب. كما أفضت هذه الممارسات وغيرها كثير من الأقوال والأفعال إلى إثارة القلق الوجودي الأقلوي وتحويله إلى حالة فزعٍ ورهابٍ من إرهاب حصل ويمكن أن يتفاقم ويحصل بحقّ كلّ الأغيار من الأقليات وغيرها. وهؤلاء إجابتهم واضحة وقاطعة، لم تعد سورية إلى أبنائها، وهي لم تكن وطنًا لهم أصلًا، وينبغي ألا تعود، مطلقًا، أو بوصفها دولةً مركزية تهمّش الأغيار المختلفين أو تهشّم المغايرين المخالفين أو المعارضين.

يبقى سؤال سورية مفتوحًا على الأمل والهاوية معًا، ولا يملك أحدٌ امتياز الامتلاك الفعلي للإجابة النهائية

في المواقف والأحكام الأحادية القاطعة

المشكلة في الإجابات الأحادية القاطعة عند من لديهم رأيٌ أو "انطباعٌ واحدٌ لا غير"، أنهم يتبنون وجهة نظر طرفٍ واحدٍ، ويعدُّونها وجهة النظر الوحيدة الموجودة أو المشروعة، ويتنقلون بخفّة من حكم الوجود "سورية عادت إلى أبنائها"، أو "سورية لم تعد إلى أبنائها"، إلى حكم الوجوب "ينبغي الاستمرار في العودة والمسيرة الوطنية الحالية، فعاجلًا أو آجلًا ستفضي إلى ما نحب ونشتهي جميعًا"، أو "ينبغي نعي الوطنية السورية وتأبينها والتخلّص منها إلى غير رجعةٍ، فلا خلاص للسوريين إلا بخلاص بعضهم من بعض". ومعظم هذه الإجابات جماعاتيةٌ، بمعنى أنها تتبنى منظورًا جماعاتيًّا ما، فعليًّا أو متوهمًا: فهذا يتبنى ما يراه رأي أغلبية الأغلبية السنية، وآخر يتبنى ما يراه رأي أغلبية الأقلية الدرزية ... إلخ، من دون الانشغال بتكوين رؤية قوس قزحيةٍ متعدّدة الألوان والمنظورات المعرفية والمعيارية.

خلاصة مكثفة

وفي تلخيصٍ لما سبق أقول: يظن كثيرون، بحقٍّ و/ أو من دون حقٍّ، أن سورية قد عادت إلى شعبها، بعد سقوط النظام الساقط. في المقابل، يرى كثيرون آخرون، بانفعالٍ فكريٍّ/ نفسانيٍّ، غالبًا، أو بعد تأمّلٍ ورؤيةٍ، أحيانًا، أننا فقدنا سورية إلى الأبد بالتأكيد، وأنه ليس هناك في الأفق المنظور ما يدل على إمكانية عودتها إلينا أو إمكانية إعادة إحياء عظامها بعد أن أصبحت رميمًا. وأنا، بالتأكيد، أتمنى صحة الظن الأوّل، وأرى ضرورة العمل على تحقيقه، بكلّ المُمكنات المُتاحة، مع خشيتي من الموضوعية الأكبر والمُتزايدة للرؤية الثانية. ويصعب أو يستحيل الجزم بما سيحصل في سورية ولها في المستقبل، القريب أو البعيد أو ما بينهما، لأسبابٍ كثيرةٍ، من بينها كثرة المُتغيّرات من العوامل المؤثّرة والفاعلين السياسيين، الخارجيين والداخليين، وعدم حسم هذه الأطراف لتوجّهاتها المُستقبلية، والإمكانية الدائمة للقيام بالكثير من التغييرات في أفعالها وأقوالها وخططها. وما الأحكام والتوقّعات الجازمة المُتكاثرة والمُترامية، هنا وهناك، إلا تنبؤات تعبِّر، غالبًا، عن استهتارٍ معرفيٍّ أو انفعالٍ نفسانيٍّ، وتكون أقرب إلى التخمينات أو التنبؤات التي تعبّر عن الرغبات في/ عن وضعٍ أو أوضاعٍ ما، أكثر تعبيرها عن المعرفة المُتوازنة الموضوعية معرفيًّا، والمُنصفة أخلاقيًّا، والمُفيدة سياسيًّا. ويبقى سؤال سورية مفتوحًا على الأمل والهاوية معًا، ولا يملك أحدٌ امتياز الامتلاك الفعلي للإجابة النهائية.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".