غزّة تحاصر قمّة الدوحة

16 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 18:14 (توقيت القدس)
+ الخط -

في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 2025، التأمت في الدوحة قمّة خليجية عربية إسلامية استثنائية، استدعتها ظروف خطيرة فرضها العدوان الإسرائيلي على الأراضي القطرية، وما مثّله من انتهاك صارخ للسيادة الوطنية ولدور الوساطة الذي اضطلعت به الدوحة منذ سنوات.

هذه القمّة لم تُعقد في سياق بروتوكولي مكرّر، بل جاءت وسط غضب شعبي عربي وإسلامي عارم، وضغط دولي مُتصاعد على إسرائيل نتيجة حرب الإبادة في غزّة. وفيما حاول القادة أنْ يُظهروا وحدة صفّ في مواجهة الاستفزاز الإسرائيلي، فإنّ اختبار القمّة الحقيقي سيبقى مُرتبطًا بمدى تحويل الخطاب التضامني إلى فعل سياسي وقانوني مُلزم، يتجاوز الإدانة إلى الردع.

الأحداث المتزامنة

انعقدت القمّة بينما المشهد الإقليمي يُرسم بدماء الفلسطينيين وصور المجازر اليومية في القطاع والإثخان في مدينة غزّة. فخلال ساعات الكلمات والخطابات، كان صوت الانفجارات يُسمع في كلّ مكان من كثافة القصف الإسرائيلي على غزّة، في تذكير مؤلم بالفجوة بين قاعات المؤتمرات والواقع الميداني.

وإلى جانب ذلك، كانت إسرائيل تبعث رسائل تهديدية صريحة؛ إذ رافق وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في جولة تحت أنفاق المسجد الأقصى، في خطوة ذات رمزية استفزازية تُهمّش أيّ زعامة دينية أو عربية، وتكشف نيات تل أبيب في التعامل مع القبلة الأولى؛ المسجد الأقصى، ومقدّسات المسلمين كمساحة مُستباحة للهيمنة الإسرائيلية.

جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى إسرائيل متزامنة مع انعقاد القمّة، وكأنها ردّ سياسي مواز ومُوجّه للتقليل من شأن بياناتها

وفي الوقت ذاته، جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى إسرائيل متزامنة مع انعقاد القمّة، وكأنها ردّ سياسي مواز ومُوجّه للتقليل من شأن بياناتها. بذلك، بدت الدوحة وكأنها على خطّ مواجهة مزدوجة: قصف إسرائيلي متواصل في غزّة، واستعراض سياسي أميركي - إسرائيلي مقصود يهدف إلى محو أيّ أثر للخطاب العربي الإسلامي الجماعي.

القصور والإمكانات الضائعة

ورغم قوّة العبارات في البيان الختامي (وهو ما عهدناه دائما من بلاغة البيانات، من إدانة صريحة للعدوان الإسرائيلي، إلى تأكيد التضامن الكامل مع قطر ومساءلة تل أبيب قانونيا) إلّا أنّ القمّة لم تنجح في الارتقاء إلى مستوى التوقّعات الشعبية، والمأمولة على مستوى القرار السياسي تجاه الإبادة الجماعية والمجاعة المُمنهجة في قطاع غزّة، والوحشية والدموية المُفرطة تجاه سُكّان القطاع، حتى أنّ الأطفال والنساء والعُزّل أصبحوا هدفاً مشروعاً.

كان بإمكان هذه القمّة أن يُصار بها إلى محطّة فارقة لو اقترنت القرارات بخطوات عملية واضحة: أوّلها، تجميد اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل بما تحمله من تبعات سياسية واقتصادية وأمنية؛ ثانيها، وقف التعاملات الاقتصادية والتجارية كافّة مع تل أبيب، بما يشمل العقود العسكرية والتكنولوجية؛ وثالثها، إغلاق الأجواء العربية أمام الطيران الإسرائيلي كخطوة ردعية تُثبت أنّ السيادة العربية ليست شعاراً ترويجياً للاستهلاك.

كان من الأجدر بالقمّة أن تُعلن صراحة ومن دون مواربة أن استمرار الحرب والإبادة في غزّة سيؤثّر سلباً على المصالح الأميركية في المنطقة

هذه الإجراءات وحدها كانت قادرة على تحويل كلمات القادة إلى أدوات ردع فعلي، تُرغم إسرائيل على التراجع وتُظهر للعالم أن العرب والمسلمين ليسوا أسرى لخطابات تُلقى ثم تُطوى.

الرسالة المطلوبة

الأكثر أهمية أنّ القمّة كان ينبغي أن تُرفق برسالة سياسية واضحة إلى الولايات المتحدة، وتحديدًا رئيسها، دونالد ترامب، باعتباره الراعي الأوّل لإسرائيل، حسب رأي مصطفى البرغوثي، الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، هذا لأنّ الموقف العربي والإسلامي لن يُكتب له تأثير إلّا إذا تُرجم إلى ضغط حقيقي على واشنطن، وبلغة المصالح لا المجاملات. فقد كان من الأجدر بالقمّة أن تُعلن صراحة ومن دون مواربة أنّ استمرار الحرب والإبادة في غزّة سيؤثّر سلبًا على المصالح الأميركية في المنطقة: في أسواق الطاقة، في طرق الملاحة، وفي الاستقرار الإقليمي الذي تُعوّل عليه واشنطن.

الاكتفاء بتكرار بيانات الإدانة والتنديد، لا يُسعف الغزّي ولا يُقدم له كيس طحين، ولا يوقف المجازر ولا يُغيّر مسار الشراكة الأميركية - الإسرائيلية

مثل هذه الرسالة المقرونة بالإرادة الملموسة، لو وُجّهت بوضوح إلى إدارة ترامب، لكانت بمثابة معادلة جديدة تَفرض على الإدارة الأميركية مراجعة دعمها المُطلق لتل أبيب، وتُدخل عنصر الردع الفعلي إلى المعادلة، وتلجم كلب المنطقة والمسؤول الأوّل عن حرب الإبادة والمجاعة وخطط التهجير والتطهير العرقي؛ تُجبره على إنهاء الحرب.

أما الاكتفاء بتكرار بيانات الإدانة والتنديد، فهو لا يُسعف الغزّي ولا يُقدّم له كيس طحين، ولا يوقف المجازر ولا يُغيّر مسار الشراكة الأميركية - الإسرائيلية.

أخيراً، إنّ قمّة الدوحة لم تكن عادية، بل شكّلت لحظة اختبار تاريخي: إما أن تكون بداية لمسار جديد يربط السيادة بالفعل ويُحمّل إسرائيل وأميركا كلفة عدوانهما، أو أن تتحوّل إلى نسخة إضافية من قمم فقدت تأثيرها بسبب الفجوة بين الخطاب والواقع، وبين الإرادة والاستسلام.

المؤكّد أنّ الشعوب العربية والإسلامية تعيش حالة غليان دائم، بدأت مع الاضطهاد الذي تعيشه منذ بدء الذاكرة العربية، حتى تجاوزت الآن قمعها حسّياً وعمليّاً بأحلك حالاتها، فإبادة شعب برُمّته لا يبعد عنها سوى كيلومترات، وحتى لو ابتعد جغرافياً، غير أنّ بينه وبين الشعوب العربية دما وعروبة ودينا، فإن هربوا من الأولى ومرّوا من الثانية، فستُحكِم وثاقهم الثالثة، ومعها الأخلاق والإنسانية.

لم تعد تكتفي الشعوب بسماع عبارات الشجب والتضامن، حتى وإن كانت من أكثر الخُطب بتاريخ القمم الخليجية والعربية والإسلامية بلاغة وقُصراً، كخطبة الرئيس السوري أحمد الشرع، بل تطالب بخطوات عملية تُترجم إلى تغيير ملموس.

القمّة فتحت نافذة للأمل، لكنها ستظل عالقة بين الإمكانات والقيود، ما لم تُستكمل بقرارات شجاعة توقف آلة الحرب وتفرض معادلة جديدة على الأرض. وهنا، يكون الامتحان الحقيقي: هل يملك القادة الإرادة والجرأة لربط مستقبل المنطقة بمصالحها الوطنية الجامعة، أم يتركون غزّة وفلسطين كُلّها وحدها تواجه الموت أو التطهير والتهجير، فيما يكتفون بإعادة تدوير بيانات قديمة مُستهلكة؟ هي ذاتها منذ عام 1967 وتُعاد صياغتها اليوم بمفردات للغة عريقة؛ حاضرها بائس وشعبها يائس؟!