في الاتجاهات السورية المضادة للوطنية السورية

27 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 20:01 (توقيت القدس)
+ الخط -

لأسباب تاريخية وراهنةٍ، تبدو سورية، دولةً وشعبًا، أنموذجًا للنزعات اللاوطنية أو المُضادة للتوجّهات الوطنية، وأظنّ وأرجّح أنّه ينبغي لها أن تحتل المركز الأوّل أو أحد المراكز المتقدّمة جدًّا في هذا الخصوص، لفترةٍ طويلةٍ. ولا يختص الأمر بجماعةٍ إثنيةٍ أو دينيةٍ أو طائفيةٍ أو حزبيةٍ معينةٍ، بل يبدو أنّ الأمر شائع عند جميع الجماعات، بدرجاتٍ متفاوتةٍ، وفقًا للأوضاع والسياقات المختلفة. وعلى الرغم من أنّ مفهوم الوطنية مفهومٌ معياريٌّ يتضمّن، عادةً، عددًا من السمات الإيجابية المحبّذة، من منظور كثيرين، فمن الضروري تعليق الأحكام المعيارية المُسبقة التي تعلي من شأن الوطنية وتحقِّر الاتجاهات المختلفة عنها أو المُخالفة أو المُضادة لها. فقد تعلَّم السوريون، بأثمانٍ باهظة، ما تشير إليه الدراسات الفكرية الأكاديمية: يمكن للوطنية، في الحياة السياسية الفعلية، أن تكون معولًا للاستبداد، ومؤسّسةً للقمع والقهر، وصنوًا للأحادية المركزية الإقصائية والاختزالية.

ربما كان الاتجاه العروبي هو النقيض الأكبر للوطنية السورية. فهو (أو كان) الاتجاه الحزبي والشعبي الأقوى، والذي كان سمةً للحياة السياسية السورية، في طوريها الديمقراطي والاستبدادي، والاتجاه الأيديولوجي الحاضر، لدرجةٍ أو لأخرى، في معظم التيارات الحزبية والسياسية، في سورية منذ الاستقلال، وقبله أيضًا. وسورية (كانت) قلب العروبة النابض، وعقلها المُفكّر، والمنبع الأساسي لكلّ التيارات القومية العروبية، كما قال جمال عبد الناصر وباتريك سيل مُحقّين. والاتجاه العروبي (كان) روح سورية و(معظم) السوريات والسوريين، وأحد أسباب مقتل الوطنية السورية أو "نشأتها المشبوهة وتاريخها الأسود". ولا يعترف الاتجاه العروبي بسورية وطنًا لجميع السوريين، بل يراها مجرّد قُطرٍ من أمةٍ أكبر، هي الأمة العربية، التي ينبغي السعي إلى تحقيق وحدتها السياسية، بكلّ الطرق (المشروعة) المُمكنة. وانطلاقًا من ذلك، لم يكن هناك، غالبًا، تبنٍ (رسمي) حقيقي للوطنية السورية، بل إنّ محاولة السير باتجاه قيام تلك الوطنية (كانت) تعني، من وجهة نظر العروبيين، نزوعًا قُطريًّا مدانًا، من حيث المبدأ ومن حيث الفعل معًا.

ولعل أبرز الأحداث الدالة على استهانة السوريين بدولتهم وبالوطنية السورية يتمثّل في موقفهم الفريد والعجيب من "الوحدة مع مصر عام 1958". فلم يحدث في التاريخ (الحديث) أن هرع معظم أفراد النخبة السياسية والعسكرية إلى بلدٍ آخر لاستجداء زوال دولتهم وضمّها إلى دولةٍ أخرى، تحت اسم الوحدة (العربية). ولم يكن ذلك الفعل "الشاذ" أو "الاستثنائي" مجرّد فعلٍ نخبويٍّ، بل كان مسودًا بتأييدٍ شعبيٍّ كبيرٍ أيضًا. وعلى هذا الأساس، يمكن الاختلاف مع بعض أهم أطروحات المفكّر العربي، عزمي بشارة، في كتابه المهم "في المسألة العربية ...". فالعروبة قد لا تكون صمغًا جامعًا بين أفراد الدولة الواحدة في العالم العربي، بل عاملًا من عوامل التفكّك والانقسام وعرقلة قيام أو استمرار الدولة الوطنية. ومن الصعب الحكم بفشل محاولات قيام الدولة الوطنية في العالم العربي، لأنّ مثل هذه المحاولات لم يكن لها وجود أصلًا، في بعض الدول. وسورية من أبرز هذه الدول. ويمكن وينبغي للاتجاه الوطني أن يتأسّس على ما هو مغايرٌ للعروبة (الثقافية)، وهذا ما ينبغي فعله، في بعض السياقات، ومنها السياق السوري.

لا يعترف الاتجاه العروبي بسورية وطنًا لجميع السوريين، بل يراها مجرّد قُطرٍ من أمةٍ أكبر، هي الأمة العربية

بالتوازي مع الاتجاه العروبي، أو بالتضاد معه، وردّ الفعل عليه، ثمّة اتجاهٌ كردويٌّ سوريٌّ لا ينظر إلى بعض المناطق السورية إلا بوصفها روج أفا، أو "كردستان الغربية" أو "غرب كردستان". وعلى الرغم من التضاد والتناحر الظاهري والفعلي بين الاتجاهين، العروبي والكردوي، فإنهما يتشاركان في الكثير من السمات المشتركة وأهمها كونهما مضادين ومعاديين للوطنية السورية التي ترى وجوب أن تكون سورية، بحدودها الحالية، وطنًا لجميع السوريات والسوريين، بعيدًا عن أيّ طموحات أو خططٍ أو مخطّطاتٍ سياسيةٍ عابرةٍ لحدود الدولة أو الدول.

وقد يُظن أنّ التوجّه القومي السياسي للحزب السوري القومي الاجتماعي توجّهٌ وطنيٌّ سوريٌّ، بسبب أنه يتحدّث عن "قومية سورية"، وعلى الرغم من التضاد المُمكن والفعلي بين التوجّهين القومي والوطني. لكن ذلك الظن الآمل يتبدّد عند معرفة أنّ الأمة السورية، من منظور أنطون سعادة مؤسّس ذلك الحزب والمُنظّر الأكبر أو الوحيد تقريبًا فيه، "هي وحدة الشعب الذي استقر على أرض سورية الطبيعية، وهي تشمل الهلال الخصيب بما فيه فلسطين وكيليكيا وقبرص وسيناء". فمثله مثل أنصار التوجّهين العروبي والكردوي، لا يرى سعادة وحزبه في سورية سوى جزء من وطنٍ أكبر يتجاوز حدودها الحالية. وقد رفض حزب سعادة منذ تأسيسه عام 1932 الحدود القائمة التي رُسمت بعد الحرب العالمية الأولى نتيجة اتفاقيات سايكس–بيكو (1916)، وتبنى مشروع إعادة توحيد "سورية الطبيعية".

لم تكن الاتجاهات التقسيمية الانفصالية غائبة غيابًا مطلقًا، في السياق السوري، سابقًا، لكن حضورها أصبح أقوى في الوقت الراهن

وثمّة الكثير من الأمثلة التي يمكن إضافتها إلى التوجّهات الثلاثة السابقة: التوجّهات العروبية والكردوية والقومية السورية. ولضيق المجال، في السياق الحالي، ولأسبابٍ أخرى لم أذكر التوجّهات السياسية الدينية/ الإسلامية، لكن، من الضروري الانتباه إلى أنّ ما سبق ذكره، وغيره، يبيِّن أنّ الاتجاهات اللاوطنية أو المُضادة للوطنية السورية لم تكن، بالدرجة الأولى، اتجاهاتٍ دينيةً/ إسلاميةً، كما يظن أو يزعم كثيرون، بل كانت اتجاهاتٍ قوميةً أو إثنيةً تتبنى أيديولوجياتٍ تسعى إلى تجاوز حدود سورية الحالية، لتكون جزءًا من كلٍّ أكبر منها. والطريف والجدير ذكره، في هذا الخصوص، أنّ الإسلام الجهادي، مُمثّلًا بما كان يسمّى "جبهة النصرة"، قد تخلّى، في عام 2016، عن التوجّه الجهادي العالمي، وحصر عمله أو نشاطه في أرض سورية/ الشام الحالية، ولم يعد يتحدّث عن طموحاتٍ سياسيةٍ لتشكيل "أمةٍ إسلاميةٍ واحدةٍ في دولةٍ واحدةٍ". والمثير أو اللافت للانتباه، في الواقع السوري الراهن، أنّ الاتجاهات اللاوطنية أو المُضادة للوطنية السورية لم تعد، غالبًا، اتجاهات ما فوق الدولة، أي اتجاهات تريد ضم سورية أو جزءٍ منها إلى كيانات أكبر منها، بل أصبحت اتجاهاتٍ تقسيمية انفصالية، تريد فصل جزءٍ من سورية الحالية أو تقسيمها إلى كياناتٍ سياسيةٍ مستقلةٍ (عن بعضها البعض).

ولم تكن الاتجاهات التقسيمية الانفصالية غائبة غيابًا مطلقًا، في السياق السوري، سابقًا، لكن حضورها أصبح أقوى في الوقت الراهن، حيث تتعالى دعوات الانفصال عن سورية وإنشاء كيانات مستقلة من أطراف متعدّدة. ولعل أبرز تلك الدعوات، في الفترة الحالية، تلك الصادرة عن الشيخ الهجري وأخريات وآخرين في السويداء السورية. وهكذا تتذبذب الاتجاهات السياسية المُضادة للوطنية بين الرغبة في ذوبان سورية في كيانٍ أو كياناتٍ سياسيةٍ أكبر والرغبة في تقسيمها إلى كياناتٍ سياسيةٍ أصغر. وسأناقش، في التدوينة القادمة، رؤى أصحاب "الوعي السوري الشقي" من أنصار الاتجاهات التقسيمية الانفصالية الراهنة، والحجج أو المحاجَّات التي يقدمونها، أو يقدّمها غيرهم، في عدِّ الاتجاه الوطني (أو اللاوطني) اتجاهًا حالمًا وواهمًا وغير واقعيٍّ، في السياق السوري الراهن، على الأقل.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".