في الدويلات السورية المستحيلة

10 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 13:38 (توقيت القدس)
+ الخط -

أثناء مشاركتي في برنامج حواري سياسي على "تلفزيون سوريا"، تحدّث أحد المشاركين باسم "أهل السنة والجماعة" وعن توجّهاتهم/ توجّهاتها السياسية، فاضطررت إلى القول إنّ السنة ليسوا جماعة سياسية، وإنّ كونهم سنةً، من حيث النسب اللاإرادي، لا يعني أنّ لديهم توجّهًا سياسيًّا واحدًا موحّدًا. واضطررت إلى القول إنني "سني قح" من حيث النسب، لكنني أختلف بالكامل مع التوجّه السياسي الذي ينسبه إلى "أهل السنة". المشكلة أنّ هناك حلفًا غير معلنٍ بين أمثال الشخص المذكور ومن يفترض أنهم يتبنون توجهًا مُضادًا ومعاديًّا له، وكلّهم يتحدّثون، بالعموم، عن وجود توجّهٍ سنيٍّ واحدٍ موحّدٍ، لدى السنة، ولا يرون في الأصوات (المنتمية نسبًا إلى السنة)، والمُختلفة عنه، سوى استثناءات تؤكّد القاعدة وداعش في الوقت نفسه.

والأمر نفسه يحصل، للأسف، مع السوريين الدروز والكرد والعلويين والمسيحيين... إلخ، فهناك من يدّعي أنّه يمثّلهم ويتحدّث باسمهم كلّهم، رغم أنه لم يكن هناك فرصة لأفراد الجماعات المذكورة لانتخاب من يمثّلهم سياسيًّا. والضغوط هائلة لاختزال السوريات والسوريين إلى جماعات إثنية/ دينية/ طائفية أحادية مُتمايزة، لكن إمكانيات المقاومة المُمكنة والفعلية لهذه الضغوط كبيرة جدًّا أيضًا، وينبغي عدم الاستهانة بها، وتفعيلها واجب على كلّ من استطاع إلى ذلك سبيلًا. والضحايا الأبرز لكلّ القوى التي تدّعي أنها تمثّل جماعة ما هم الأفراد المنتمون نسبًا إلى الجماعة ذاتها. ولهذا، ولأسبابٍ أخرى، يقع على عاتق أفراد كلّ جماعة مقاومة هذه الاستباحة لهم ولتمثيلهم السياسي.

وخلال مشاركتي في برنامج منتدى دمشق الذي يقدّمه الإعلامي القدير محمد دوبا على "تلفزيون سوريا"، مع الدكتورين العزيزين محمد حبش ونجيب الغضبان، في موضوع "مستقبل الإسلام السياسي" (في سورية)، كان رأيي، باختصارٍ، أنّ مستقبل سورية ومستقبل الإسلام السياسي/ الجهادي سيتوقّف على عوامل عديدةٍ، من بينها، أو من أهمها، مدى قبول ذلك الإسلام، طوعًا، من ناحيةٍ، وكرهًا أو اضطرارًا من ناحيةٍ أخرى، بالتعدّدية، واعترافه بالأطراف الأخرى، وبأنه مجرّد طرف بين تلك الأطراف، وليس الطرف الوحيد أو "الواحد الأحد الذي ليس له كفوًا أحد". ومن دون ذلك الاعتراف لن تقوم لسورية (الوطن) قائمة، وسيكون ذلك الإسلام مشروع حرب أهلية بدأت مسبقًا، وقد لا تنتهي في المدى المنظور.

عملية التطييف الأكبر والأخطر حاليّاً هي تلك التي تقوم بها السلطة الحالية، بوعيٍ أو من دونه، تتمثّل في تطييف السنة، أي تحويلهم إلى طائفة واحدةٍ ذات توجّه سياسيٍّ (طائفيٍّ) واحدٍ

ولا يمكن فهم الوضع في سورية بالانطلاق من رؤية جوهرانية ترى في السوريين مجرّد جماعاتٍ طائفية، ولا ترى فاعليةً سياسيةً لهم إلا من خلال هذه الجماعات. فالمسألة مسألة تطييفٍ سياسيٍّ أكثر (بكثير) من كونها مسألة طائفية سياسية مستقرة على أساس طائفيةٍ اجتماعيةٍ ودينيةٍ وإثنيةٍ. وعلى الرغم من كلّ عمليات التطييف، لم يتحوَّل السوريون إلى طوائف سياسيةٍ صلبةٍ. وبدلًا من استثمار هذا الأمر في الاستناد إلى الروابط السياسية القائمة على الانتماء أو الانتساب المدني الإرادي، وليس إلى النسب الأهلي الحاصل بالقدر أو الولادة، والدعوة إلى تعزيز هذه الروابط، ثمّة من يشتكي من عدم النجاح (الكامل) في عملية التطييف، ويصرّ، في الوقت نفسه، على التعامل مع الجماعات الدينية والطائفية والإثنية بوصفها جماعاتٍ سياسيةٍ مُتمايزة المصالح والتوجّهات السياسية.

ولعل أبرز عمليات التطييف التي جرت وما زالت تجري في سورية خلال الفترة الحالية وما سبقها هي تلك المتعلّقة بتحويل الجماعتين الدرزية والكردية إلى جماعتين سياسيتين، لهما مطالب وتوجّهاتٌ ومصالح ومطامح سياسية واحدة وخاصة ومتمايزة عن مطالب بقية السوريات والسوريين. لكن عملية التطييف الأكبر والأخطر حاليًّا هي تلك التي تقوم بها السلطة الحالية، بوعيٍ أو من دونه، وتتمثّل في تطييف السنة، أي تحويلهم إلى طائفة واحدةٍ ذات توجّه سياسيٍّ (طائفيٍّ) واحدٍ، مع الزعم الصريح أو الضمني، بأنها هي التي تمثّل تلك الطائفة. وتتعاضد عمليات التطييف المختلفة، ويعطي كلّ منها الدعم والتسويغ لعمليات التطييف الأخرى. وفي المجال السياسي، يكون تطييف أو تسنين السنة عاملًا من العوامل المساعدة على تطييف أو علونة العلويين ودروزة الدروز وكردنة الكرد ... إلخ. وبوصفهم الكتلة العددية الأكبر، فإنّ مسؤولية السنة وتأثيرهم أو تأثير عملية تطييفهم أكبر (بكثير) من مسؤوليات الجماعات الأخرى وتأثيرها وتأثير عمليات تطييفها. وإضافةً إلى تطييف السلطة وأطراف سنية أخرى للسنة، ثمّة أطراف أخرى تساهم في هذا التطييف بالحديث عن الداعشية الفعلية أو المُمكنة، دائمًا، للسنة، وعن كونهم بالفعل طائفة في حالة فاشية متوحّشة حاليًّا، ويجب الخلاص/ التخلّص منها بكلّ الطرق المُمكنة.

على الرغم من كلّ عمليات التطييف، لم يتحوَّل السوريون إلى طوائف سياسيةٍ صلبةٍ

ويمكن النظر إلى عمليات تطييف السنة باعتبارها جزءًا من عمليات أسلمة الدولة والمجتمع. ومثل هذه العمليات لا ولن تعبّر "في النهاية" سوى عن توجّهات ومصالح جزءٍ صغيرٍ منهم. وهذا هو حال كلّ عمليات التطييف، وكلّ الطوائف السياسية في الأنظمة الطائفية. وسبق لأقطاب من السلطة الحاكمة الحالية أن أعلنوا جهارًا حلمهم بقيام كيانٍ سنيٍّ في سورية، وساهمت عمليات الغزو والمجازر التي مارستها فصائل السلطة الحالية في الساحل والسويداء ومناطق أخرى في زيادة التجييش الطائفي وانكفاء الجماعات الأخرى وتطييفها سياسيًّا جزئيًّا على الأقل. وأفضت تلك العمليات، وعمليات التطييف الأخرى، وعوامل أخرى، إلى تعالي دعوات الانفصال عن سورية وإنشاء كيانات طائفيةٍ مستقلةٍ من أطراف متعدّدة، ولعل أبرزها، في الفترة الحالية، تلك الصادرة عن الشيخ الهجري وأخريات وآخرون في السويداء السورية. وكعادة كلّ المظلوميات، لا يكترث أصحاب تلك الدعوات بمدى معقولية مطالبهم وبمدى إمكانيات تحققّها وبسلبيات ذلك التحقّق، بل يكتفون بتسويغ دعواتهم للانفصال بالحديث عن سلبيات السلطة القائمة، في تواطؤ (ضمنيٍّ) معها، من حيث عدم التمييز بين السلطة والدولة، ومن حيث المساهمة في عمليات التطييف والتجييش الطائفي. وكالعادة، يختزل أصحاب المظلوميات (السنية والدرزية والعلوية والكردية ... إلخ) أنفسهم في مجرّد ضحايا، ويختزلون أفعالهم في كونها مجرّد ردات فعل ضرورية ومسوَّغة دائمًا ومطلقًا، لكونها ردات فعل تحديدًا، غير مدركين أنّ تلك الأفعال تحتاج إلى أن تكون مسوَّغة ذاتيًّا أيضًا، وأنّ الاختزالين المذكورين ينفيان أو ينكران كونهم ذوات فاعلة ومسؤولين سياسيًّا، وحتى أخلاقيًّا.

الهجري وأتباعه أو أنصاره يقولون إنّ الطائفة الدرزية قد اختارت مشروع الانفصال، وإنّ كلّ من لا يوافق يكون قد باع ضميره. وهو بذلك يُخوِّن كلّ شخصٍ (درزي) لا يتفق مع رأيه. في المقابل، هناك من يرى في الاستنجاد بإسرائيل وبشرفاء العالم في الوقت نفسه، لدعم ذلك الانفصال/ الاستقلال، خيانة وطرفة في الوقت نفسه. وتبدو "الدولة الدرزية" مستحيلةً أكثر من الدولة الإسلامية التي تحدّث عن استحالتها وائل حلاق. وهي في كلّ الأحوال باهظة الثمن لدرجةٍ تجعلها أو ينبغي أن تجعلها خيارًا ميتًا. ويدرك (بعض) أصحاب دعوات الانفصال والتقسيم الثمن الباهظ المذكور، لكنهم يصرّون على موقفهم بحجّة أنّ ثمن بقاء سورية موحّدة قد يكون أكبر (بكثير) من ذلك الثمن الباهظ الذي يستعجلون دفعه رغم أنه يتضمّن عمليات تهجيرٍ تمسّ ملايين كثيرة من السوريات والسوريات. ويستغرب المرء يقينهم من أن عملية التقسيم ستكون، بالتأكيد، أقل سوءًا من عملية بناء سورية الوطن للجميع.

المسألة مسألة تطييفٍ سياسيٍّ أكثر (بكثير) من كونها مسألة طائفيةٍ سياسيةٍ مستقرةٍ على أساس طائفيةٍ اجتماعيةٍ ودينيةٍ وإثنيةٍ

وإضافةً إلى خشيتي من عدد الضحايا الهائل والفظيع الذي سينجم بالتأكيد عن (السعي إلى) تحقيق ذلك الخيار السياسي، فإنّ هذا اليقين الزائف وغير المسوَّغ هو أكثر ما يُثير الحفيظة والحنق. ومن الناحية المعرفية، يختار دعاة الانفصال والتقسيم أن يكون ملايين من السوريات والسوريين ضحايا مؤكّدين لعمليات التهجير التي تقتضيها عمليات التقسيم والانفصال المذكورة، على الرغم من أنّ الاحتمال المعقول في أن يكون عدد ضحايا سورية الموحّدة أقل (بكثيرٍ)، وعلى الرغم من أنّ عمليات التقسيم ستفضي إلى دويلاتٍ ليس مؤكّدًا أنها ستكون أقل سوءًا من سورية، بأوضاعها الكارثية الحالية.

وإذا وضعنا جانبًا أصحاب المصالح الخاصة والنظرات الطائفية المُتعصّبة، يبدو واضحًا أنّ عددًا كبيرًا من متبني خيار الانفصال والتقسيم إنما يؤسّسون اختياراتهم بناءً على مخاوفهم، المسوّغة أو غير المسوَّغة. وقد يكون مفيدًا وضروريًّا استحضار عبارة نيلسون مانديلا القائلة: "لتكن اختياراتك معبّرة عن آمالك، لا عن مخاوفك". والخوف ليس قائدًا مناسبًا أو مفضَّلًا عمومًا، وينبغي، في كلّ الأحوال، ألا يكون القائد الوحيد. وتزداد مساوئ هذا القائد في حالات الذعر والغضب واليأس، وتتجلّى في ردات فعلٍ نفسانيةٍ يصعب، على أصحابها وعلى من يهمهم الأمر، مناقشتها وضبطها والحدّ من هيمنتها وتسلّطها، في المجال العام، بعقلانيةٍ وصراحةٍ وودية، ومن كلّ المنظورات الضرورية المُمكنة.

لا خلاص للسوريات والسوريين إلا بخلاصهم معاً، وليس بخلاص أو بتخلّص كلّ طرفٍ منهم من الأطراف الأخرى

وأوضاع سورية الحالية كارثية بأكثر من معنى. فالمجتمع ممزّق والدولة مُنهارة ومُستباحة، من الخارج والداخل، والأوضاع الاقتصادية بالغة السوء، والسلطة ضعيفة وتفتقر إلى الكفاءة وإلى الكثير الكثير مما تتطلّبه هذه المرحلة، وتتسم أفعالها بالكثير الكثير مما يتناقض مع عملية بناء سورية الوطن لكلّ السوريين. في المقابل، السعي إلى التقسيم، فضلًا عن تحقيقه، يزيد الطين بلةً أو البلة طينًا، ولا يحلّ أي مشكلةٍ حقيقيةٍ أو فعليةٍ، بل من المرجّح أن يزيد تلك المشاكل ويفاقمها ويخلق مشاكل أخرى كثيرةً وكبيرةً.

من المؤكّد أنّ سقوط النظام الأسدي قد أفسح المجال للكثير من المُمكنات الإيجابية التي ما كان بالإمكان وجودها أو وجودها في ظلّ حالة الموت أو الموات التي كانت تعيشها "سورية الأسد". لكن، من المؤكّد أيضًا أنّ الانتقال من "سورية الأسد" إلى "سورية الوطن" لن يكون سهلًا؛ وهو يتضمّن وسيتضمّن الكثير من المشاكل والصعوبات والعثرات. ونحن، حاليًّا، في هذا الطريق الوعر والشاق والمُجهد والمستنزِف لطاقات كثيرين منا على التحمّل. لكن لذلك الطريق مخارج ونهايات متعدّدة ومتنوّعة. و"سورية الوطن" ليست إلا خيارًا بين الخيارات، وإمكانية بين مُمكناتٍ أخرى. ولا يبدو خيار الانفصال والتقسيم لا أكثر احتمالًا أو ترجيحًا في إمكانية الحصول ولا أكثر إيجابية أو أقل سلبية من خيار سورية الواحدة الموحّدة. كما لا يبدو أنّ الجهود الساعية إلى تسويغ ذلك الانفصال/ التقسيم لديها إمكانيات أكبر للنجاح من إمكانيات الجهود الموجّهة لقيام سورية الوطن لجميع السوريات والسوريين. وعلى الرغم من مسارعة كثيرات وكثيرين إلى نعي الوطنية السورية ودفنها مرّاتٍ عديدةٍ، فإنّ طيفها وشبحها بقي حاضرًا بطريقة تعطي الآمال (المسوَّغة) لطرفٍ، وتنغّص حياة طرفٍ أو أطرفٍ أخرى تسعى إلى "قتل الأب (السوري)" للتخلّص من سلطته وسطوته وإجرامه الفعلي والممكن، من الناحية النظرية على الأقل. ولعل تكرار عمليات نعي ودفن تلك الوطنية يبيِّن أنّ لديها من الأرواح والحيوات أكثر مما يُقال إنّ القطة تمتلكه، وإنّ موتها في جيلٍ ما يعني أنها ستولد في الجيل التالي متقمّصةً جسدًا في عملية تناسخٍ يمكن أن نأمل في أن تكون تقدميةً، وأن (نعمل على أن) تفضي إلى ما هو أفضل أو أقل سوءًا من كلّ الوطنيات السورية السابقة والحالية، الفعلية أو المزعومة. وفي كلّ الأحول، من المرجّح أن لا خلاص للسوريات والسوريين إلا بخلاصهم معًا، وليس بخلاص أو بتخلّص كلّ طرفٍ منهم من الأطراف الأخرى.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".