قتل غير مرئي
في زحمة التبدلات، يتركّز الضوء على الأحداث التي تمتلك أهمية قصوى، مثل السياسة الخارجية، التسليم والتسلّم، وتناقل أخبار السلطة الجديدة وأفرادها، واستقبال الوفود الأجنبية والزيارات الرسمية والخلافات الحادة بين أطراف الصراع، وأسعار البورصة، وملابس الزعماء، وفكاهات المتحذلقين وتبريكات المطبّلين الجدد...
دوما وأبدًا، خاصة في الفترات الانتقالية، وفي الحروب والنزاعات، وما يتلوها من اتفاقاتٍ وتوافقاتٍ ومحاولات تهدئة أو إبرام لاتفاقيات لا تحصى، يتم تسويف حقوق النساء لتصل إلى حدود التجاهل التام، بل قد يبلغ الإسفاف مداه حين يتم التعامل مع قضايا النساء وأوضاعهن وكأنها غير ذات أهمية البتة، وكأنّها في الحدّ الأدنى من سلّم البديهيات، وليس فقط الأولويات.
الأهم أنه، وبتوافق ضمني ومعلن، يتم نزع صفة الوطنية عن أوضاع النساء، وكأنّه ملف قابل للتأجيل والتسويف، وكأنّ أوضاع النساء استحقاق تبعي يلحق بالأهم منه، ملف لا يهم أحدًا من أصحاب القرار، لأنه خارج ترتيبات تثبيت المواقع والعلاقات والولاءات.
شهدت فترات النزاع في سورية حالات قتل لمعتقلات أو رهينات أو عائدات من الاعتقال، كما شهدت حالات قتل أو طرد لمختطفات أو موقوفات من قبل أحد أطراف النزاع. وفي أحسن الأحوال اختارت المخطوفات أو المعتقلات عدم العودة إلى بيوتهن أو مناطقهن خوفًا من القتل أو الاحتجاز أو الوصمة الشخصية أو وصم العائلة برمتها.
كأنّ أوضاع النساء استحقاق تبعي يلحق بالأهم منه، ملف لا يهم أحدًا من أصحاب القرار
في مدينة منبج التابعة لمحافظة حلب، تمّ قتل امرأتين سوريتين بعد عودتهما من الخطف من مكان احتجازهما، حيث اختطفتهما جهة غير معلومة. لكن الأخبار المتضاربة حول الاختطاف من عدمه، أو حول ما تمّ هناك أثناء الخطف، خاصة احتمالية تعرّضهن للاغتصاب أو تصويرهن بمواقف ووضعيات جنسية خادشة...، كلّ هذا مع اعتياد وتقبّل ضمني على ضرورة قتل النساء فقط لأنّ أجسادهن انكشفت خارج نطاق العائلة، والمجتمع يبرّر القتل، بل يجعله واجبًا لحماية اسم العائلة وشرفها، بل يجعل من القتلة أبطالًا.
تمّ التعامل مع مقتلهما وكأنه مجرّد خبر عابر، لأنّ القتل تمّ من قبل أفراد العائلة، وتمّ تبرير سبب القتل دفاعًا عن الشرف، حتى إنّ القاتل صوّر عملية القتل وصرخة الضحية قبل اختراق الرصاص لرأسها وهي تستجير قائلة: "والله ما قدرت يابا"!
تخيّلوا أن تستجير المقتولة باسم أبيها، بالأبوة ورابطة الدم بينهما، لكنه القاتل المتبرّئ من دم الضحية، من دم ابنته، والمتبرّئ منها جسدًا وحضورًا واسمًا...
حتى وإن كانت البلاد تغرق في الدم، فدم النساء مهدور وغير محزون عليه ولا مُكترث به
لطالما تمّ اعتبار أجساد النساء حيازة جماعية للأسرة والعشيرة والمجتمع، مما يمنح ترخيصًا لأيّ فرد من هؤلاء بالتحكّم في هذه الأجساد لدرجة قد تصل إلى قتلها والقضاء عليها بحكم مبرم لا يحتاج إلى قانون أو سماح، لا بل يتم الاستثمار في جرائم القتل هذه وكأنّها ميراث اجتماعي يستحق التقدير والتثمين بعد دفع استحقاقه المطلوب. تمنح هذه الرخصة عفوًا من العقوبة ومن الإدانة، وحتى من الرفض، عفوًا من واجب الدعم ومساندة الضحايا اللاتي يستحقن التضامن لا القتل. مرّ الخبر عابرًا، سريعًا، من دون صدى أو تنديد أو حتى تعميم.
حتى وإن كانت البلاد تغرق في الدم، فدم النساء مهدور وغير محزون عليه ولا مُكترث به. وحتى إنّ كانت البلاد غارقة في ضجيج الاحتفالات، فصوت الضحايا غير مسموع، ولن يلطّخ دم النساء نشوة الانتصار أبدًا.
يشيع العنف بكلّ وجوهه ويتركّز على أوضاع النساء وأجسادهن وحياتهن، لكنه عنف يتم التعامي عنه بتوافق جمعي، التعامي عنه لأنه لا يستحق التوقّف ولا المشاهدة ولا حتى تبادل الصور أو الأخبار! ستقول الغالبية: من المؤكّد أنّهن يستحققن القتل، وسيقول الأكثر رأفة: ليتهن هربن ولم يعدن، أما البقية فستحلف أيمانًا معظّمة بأنّ هذا لم ولن يحدث أبدًا، إنّه قتل غير مرئي ويتم التعامي عنه.