كيف تقتل زعزعة الثقة النموذجَ الأميركي؟

09 مايو 2025
+ الخط -

قد تكون الثقة أثمن ما راكمته الحضارة الإنسانية عبر العصور؛ إنها الخيط الخفي الذي ينسج الأمان بين الأفراد، ويصنع من التلاقي المجرّد مجتمعًا، ومن التعايش حضارة. بها تُبنى العلاقات، وتُقام المؤسّسات، وتُعقد المواثيق بين الأمم. هي الأصل الذي لا يُقاس بالذهب، لكنه ما يُقيم الدول ويؤسّس للتحالفات الكبرى، وإذا ما تزعزعت، انهارت الأعمدة التي يقوم عليها العالم مهما بلغ من تطوّر ورقي.

ومع ولاية دونالد ترامب الرئاسية الثانية، لم يعد العالم يواجه مجرّد عودة لرئيس شعبوي، بل دخل إلى مرحلة جديدة من الانحدار الأميركي قد تكون غير مسبوقة في التاريخ المعاصر للولايات المتحدة. فما الذي يجعل هذه العودة مختلفة؟ وكيف يمكن لقراراته الراديكالية أن تُحدث زلزالاً في الداخل الأميركي وتهزّ أركان النظام العالمي من دون رجعة؟

بعكس ولايته الأولى، حيث كان ترامب مقيّداً إلى حدٍّ ما بهاجس إعادة الانتخاب ومقاومة المؤسّسات، يبدو ترامب في ولايته الثانية أكثر تحرّراً، بل أكثر اندفاعاً للانتقام من "الدولة العميقة"، وتصحيح ما يراه خيانة من الأجهزة الأمنية، والإعلام، والمؤسسات العلمية لشخصه النرجسي. هذا التحرّر من القيود لا يعني فقط اتخاذ قرارات أكثر راديكالية، بل إعادة تعريف جوهر الدولة الأميركية نفسها من نظام مؤسّسي قائم على توازن السلطات، إلى زعامة فردية فاشية ذات نزعة انتقامية. فهل زرعت هذه الزعامة الفردية الفاشية بذور تدمير الثقة بالنموذج الأميركي من الداخل؟

إذا كان القرن العشرون قد شهد صعود أميركا قوّةً مهيمنة، فإنّ القرن الحادي والعشرين، مع ولاية ترامب الثانية، قد يكون بداية النهاية لهذه الهيمنة

للإجابة عن هذا السؤال علينا البحث في أبرز ملامح مشروع ترامب، والذي ظهرت بوادره منذ العام 2022 ضمن ثنايا "مشروع 2025"، والذي يتمحور حول محاولة تفكيك الدولة الفيدرالية من خلال الانسحاب التدريجي من الالتزامات الدولية، سواء في الناتو، اتفاقيات المناخ، أو المنظمات الدولية، مما بدأ بتقويض الثقة العالمية بالولايات المتحدة بوصفها قوّة ضامنة للاستقرار.

وتمدّد تفكيك الدولة الفيدرالية إلى محاولة سحق البيروقراطية الفيدرالية ذاتها عبر تفكيك الوكالات الفيدرالية، وتقليص القوى العاملة، وتعزيز السلطات المحلية على حساب الصلاحيات الفيدرالية، وتقليص تمويل الوكالات المستقلة، وتسييس القضاء، وتطهير الإدارة من أيّ معارضة، ما يعني عملياً تفكيك الدولة الأميركية الحديثة ومحاولة استبدالها بمنظومة ولاءات شخصية.

وتتمثّل آخر فصول هذه الحرب الداخلية الدائرة حاليًّا بالهجوم على التعليم والإعلام عبر تجفيف الدعم للجامعات، وملاحقة الإعلام المستقل، في محاولة لفرض سردية بديلة تقصي العقلانية وتغذي نظريات المؤامرة.

في هذا السياق لا يكمن التأثير الأخطر لفقدان النموذج الأميركي للثقة والشرعية في الداخل فحسب، بل في فقدان الولايات المتحدة موقعها الرمزي نموذجاً "ديمقراطياً" مزعوماً. لأكثر من نصف قرن، قدمت أميركا نفسها قائداً للعالم الحر. اليوم، بعد إعادة انتخاب الشعب الأميركي لمن يُهدّد مؤسّساته ويُطارد خصومه السياسيين، فإنّ الرسالة للعالم ستكون واضحة: النموذج الأميركي المخادع لم يعد يُقنع حتى أبناءه.

 لا تُهزم الأنظمة فقط بانقلاب عسكري، بل يمكن أن تُفكّك حين يفقد الناس الثقة بأنها تستحق البقاء

ولكن لكلّ فعل عواقب، والعواقب هنا عالمية قد تنهي التفوّق الأميركي الناعم، فقد بدأ الحلفاء بالفعل البحث عن بدائل، فدول الاتحاد الأوروبي تتجه نحو تعزيز استقلالها الاستراتيجي، ولربّما متأخّرة كثيراً، بينما تنمو تحالفات بديلة بقيادة الصين وروسيا. يتم هذا بالتوازي مع تآكل الثقة بالدولار والمؤسسات الأميركية بشكل عام بسبب القرارات الاقتصادية غير المدروسة التي تدفع العقلاء إلى تسريع فكّ ارتباطهم بالعملة الأميركية والمؤسسات التابعة لها، على الرغم من صعوبة هذا الانفكاك وتشابك النموذج الحالي وتعقيده.

كلّ هذا يسرّع في انهيار ذريعة "القيادة الأخلاقية" الزائفة التي طالما برّرت تدخلات وانتهاكات أميركا الخارجية، وعليه قد يكون أخطر إرث يمكن أن تخلفه رئاسة ترامب الثانية للأميركيين، ولربما أفضل إرث لبقية العالم، هو نزع الثقة من النموذج الأميركي، فزعزعة الثقة قد تكون بداية النهاية للغطرسة والبلطجة الأميركيتين، فإذا كان القرن العشرون قد شهد صعود أميركا قوّةً مهيمنة، فإنّ القرن الحادي والعشرين، مع ولاية ترامب الثانية، قد يكون بداية النهاية لهذه الهيمنة. فالأنظمة لا تُهزم فقط بانقلاب عسكري، بل يمكن أن تُفكّك حين يفقد الناس الثقة بأنها تستحق البقاء. ومن هنا، فإن ترامب لا يُهدّد أميركا فحسب، بل النموذج الذي بُني عليه النظام العالمي الحديث. في النهاية من المستبعد ضمن المعطيات الحالية سقوط أميركا بالصواريخ، وربما لن تُهزم في معركة، ولكن قد تنخرها الكلمات والقرارات التي تزعزع الثقة في المنظومة برمتها، وتسقط سردية مجترة فقدت بريقها، لتعطي الفرصة لولادة شيء جديد مهما كان المخاض قاسيًا ومكلفًا.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.