ما جدوى الكتابة في زمن الإبادة؟

08 مايو 2025
+ الخط -

تتعدد الأسباب التي تدفع لكتابة قصة، أو رواية، أو إنتاج أدبي أو فلسفي، أو أي إنتاج مكتوب، من نوازع علمية، أو فلسفية، أو ربما مصلحية، أو معنوية، وربما رسالية، ولا يختلف عن تلك الدوافع كتابة المقال. ما من أحد يكتب، إلا ويظن أن في كتابته جدوى، حتى كاتب هذه السطور قبل فترة من الزمن، أي ما قبل زمن الإبادة، هكذا كنت أظن... لكن زمن الإبادة غيَّرني، لم أعد أشعر بأن هناك جدوى من الكتابة في زمن الإبادة، فهل نتوقف؟  ليس لدي إجابة.

تكلمنا كإعلاميين كثيراً، وكتبنا كصحافيين أكثر، لكن لم يتغير من الواقع شيء في غزة، وهي التي يفصل بينها وبين الدخول في السنة الثالثة من العدوان بضعة أشهر. قتل، دمار، مجاعة، مرض، معاناة، ولم تغير الكتابة شيئاً، وكيف أنتظر من الكتابة أن تغير شيئاً، إذا كانت محكمة العدل، والجنايات الدوليتان، وغوتيريس بمؤسساته الأممية، والشعوب الحرة، والشعوب العربية النائمة والمخدرة، لم تغير من الواقع شيئاً، فما الذي ستغيره بضع كلمات مقابل الجبروت والغطرسة التي يتعرض لها الأهالي في غزة!!؟

قبيل انتقالي إلى "المقهى" الهادئ، مخدع كتابة المقالات، وقبيل وصولي لكتابة هذه الكلمات، كنت أقرأ كتاباً "كتب تقرؤنا" لمؤلفه محمد عبد العاطي، وهو كتاب يتحدث عن السير الذاتية. في الكتاب مرَّت معي قصة الإمبراطور الروماني المتسلط "كاليجولا" وهو عنوان لمسرحية الأديب ألبير كامو.

"كاليجولا"، الشخصية الطاغية المتسلِّطة المجرمة، التي سعت للحصول على الاطمئنان لما تقوم به من جرائم، بحيث تفعل ما تشاء من دون عذاب ضمير، عبر التمثل بقدرة الله، لكن في النهاية الإله إله، والبشر بشر. من هو "كاليجولا" العصر؟ نتنياهو وائتلافه الحاكم؟ أم ترامب وإدارته اليمينية؟ أم الأنظمة العربية الصامتة، الجميع "كاليغولا"، فقد مات الضمير .

كل من في غزة مستهدف، لكن كيف؟ ماذا عن قصصهم، وتجاربهم الشخصية ؟ لم يأتنِ الجواب إلا بعد قراءة  كتاب "غزة تروي إبادتها قصص وشهادات" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2024 .

أن تشاهد شيء، لكن أن تقرأ كما يحدِّثك أهالي غزة شيء آخر. لقد قرأت الكتاب في زمن العدوان على لبنان، وشعرت بشيء مما شعر به أهالي غزة، من مشاعر مختلطة وغريبة، لاحقاً كتبت مقالاً عن الكتاب، لم أستطع أن أختصر الكتاب، لم أستطع أن أغيِّب فيه قصة واحدة، ذكرت الجميع، فهم الحاضرون في المشهد والذاكرة، ونحن الغائبون عن جدوى المساعدة.

لم يعد هناك جدوى لمناداة الشعوب، فقد أصمّ آذانها قهر وتسلط الحكَّام، ولم يعد هناك جدوى لمناداة أحرار العالم

 

عن ماذا أحدِّثكم عن قصص أهالي غزة التي دوَّنتها أيديهم؟ وأنتم تظنون أنكم شاهدتم بما فيه الكفاية؟ هل علمتم أن أجساد الناس أصبحت كالرصيف، اضطر الناس للسير عليها داخل المستشفيات المدمرة؟ هل شعرتم بمن سُلب منه كيس الطحين في غزة بقوة السلاح، من ملثم تبين أنه صديق، لأن "الجوع كافر" فأصبح الوجع وجعان؟

هل صدمكم رؤية شابة لنفسها، وهي طالبة أدب إنكليزي في ريعان الصبا والجمال، تنظر في المرآة وقد غيَّرت الإبادة ملامحها تقول: "هذه ليست أنا، هذا ليس انعكاسي". هل ذقتم طعم الغبار بالطعام، فهناك من أطعمت أولادها "المعكرونة بالغبار"، لأن الطعام الوحيد المتوفر هو المعكرونة، التي وقع عليها الغبار بسبب القصف.

ما الذي يمكن أن تغيره الكلمات؟ وما الذي ستحدثه من فرق؟ هل علمتم أن هناك من علم أن عائلته تحت الأنقاض عن طريق التعرف على "شنطة ابنته أوركيد التي لا تفارقها".

هل علمتم أن أمَّاً فقدت شغف العيش بعدما خطف الاحتلال زوجها وأطفالها الثلاثة، إلا من طفلتها الوحيدة  التي ولدت في زمن الإبادة؟ أم هل شعرتم بقلق طفلة صغيرة، مبتورة الرجل قالت لجدتها "هيقبلوني في الروضة وأنا رجلي هيك مقطوعة..."؟

هل رفضتم حضور جنازة لفرد من العائلة، لأن هناك من لم يتحمل أن تتشكل ذاكرة جديدة مؤلمة عن الشهيد. هؤلاء جميعهم لهم أسماء، وأحبِّاء، وعائلات، وأحلام... دُمِّرت في زمن الإبادة. لا مستشفيات، لا تعليم، ما جدوى الأرقام وهي لا تثبت على حال، فكل يوم تتغير، كل شيء صادم ابتداء من إحصائيات سوء التغذية للأطفال، إلى العجائز المرضى الذين لا يجدون حبَّة لأمراضهم المزمنة الموجعة، وإن كانت آلام الروح أشد وجعاً.

من أكثر رسائل الغزيين إيلاماً، على الفيس بوك، "عندما أموت لا أريد أن أُذكر كرقم بين الشهداء... أريد أن يذكر اسمي ويتم الاحتفاء بي". ما الذي يمكن أن تحدثه الكلمات، وما جدوى الكتابة؟ ما جدوى المقالات؟ وما جدوى الشعر؟ وما جدوى المؤلفات؟ إذا كانت الكتب تستخدم وقوداً للنار للتدفئة وطبخ الطعام في غزة، هل هي رسالة يأس؟ ربما لا.. لكن من الذي لديه الصبر لكل ذلك؟ أكتب تلك الكلمات وأنا جالس على طاولة المقهى في الهواء الطلق ليلاً في ساعة متأخرة، وأشعر بشيء من البرد؟ هل بردنا كبرد غزة؟... إلى جانبي عائلة تضحك وتتبادل أطراف الحديث ويحتسون القهوة، يتحدثون عن غدهم، ماذا عن قهوة غزة، وماذا عن غد غزة؟ هل لديهم غد إلا الجوع والحصار والقتل؟

لم يعد هناك جدوى لمناداة الشعوب، فقد أصمّ آذانها قهر وتسلط الحكَّام، ولم يعد هناك جدوى لمناداة أحرار العالم، فتحركاتهم لم تغير شيئاً من الموقف الغربي الظالم والأعمى للاحتلال.

تصلني رسائل من غزة... "تحدَّثوا عنَّا، عن جوعنا".. ماذا تفعل الكلمات؟ سنتبادل الأدوار، من سيكتب قصتنا هم أهل غزة، إن استطاعوا الصمود في زمن الخذلان، ساعتئذ سيكون للكتابة جدوى.