مخاطر المحاكمات الإعلامية
ماذا لو حُكِمَ عليك قبل أن تُمنح فرصة للدفاع؟ ماذا لو قرّرت الشاشات مصيرك، بينما ما زلت تلهث خلف أيّ منبرٍ يعطيك الفرصة لتروي القصة من زاويتك؟
هذا تماماً ما يحدث حين يتم تحويل وسائل الإعلام من أدوات لنقل الحقيقة ونشر المعلومات الكاملة إلى منصاتٍ لإصدار الأحكام المعلّبة، لنجد أنفسنا غارقين في فوضى المُحاكمات الإعلامية.
في عالمٍ يتسارع فيه تدفّق المعلومات، وتتضخّم فيه سلطة الصورة والعنوان، لم يعد القضاء وحده من يصدر الأحكام. اليوم، تكفي تغريدة أو تقرير تلفزيوني أو فيديو لمشهور لتحديد ملامح المُذنب، وربما لدفن سمعته إلى الأبد، وأحيانًا دفنه هو شخصيًّا، حتى قبل أن يُستدعى إلى قاعة المحكمة. هنا، تُجرى المحاكمات في نشرات الأخبار، وعلى منصّات التواصل، وفي البرامج الحوارية، وغالباً من دون منح المتهمين الحقّ في الردّ أو حتى الظهور، كلّ ما نحتاج إليه هو توجيه أصابع الاتهام ورسم صورة الشيطان على وجوههم.
المحاكمة الإعلامية، ببساطة، هي تقديم قضية ما، غالباً ما تكون ذات طابع جنائي أو سياسي أو أخلاقي أمام جمهور الرأي العام، مع تحميل طرف ما مسؤولية الاتهام مُسبقًا، قبل صدور أيّ حكم قضائي أو حتى قبل الشروع في إجراءاتِ المحاكمة حتى الصورية منها. ورغم أنه يُفترض بالإعلام أن يكون عين الناس على العدالة، لكن هذه العدسة تُوجَّه في هذه الحالة بتركيز نحو التشويه والشيطنة، لا نحو الحقيقة.
في هذه السياقات، لا تكتفي المحاكمات الإعلامية بتغطية القضايا، بل تتحوّل إلى أداة ممنهجة لتدمير الأشخاص أو الجماعات المُستهدفة. تُنتقى الصور ويتم التلاعب بها بعناية، وقد تُجتزأ لتثير النفور وتستحث الغضب في النفوس، وتُستدعى لغة مشحونة تتحدّث عن الشر المطلق، والكراهية، والخيانة، والانحراف من خلال ترويج الرواية المُهيمنة على أنّها الحقيقة المطلقة. هنا، لم يعد الهدف تنوير الرأي العام والوصول إلى الحقيقية وإحقاق العدالة، بل تشكيل الرأي العام وحشده بطريقة تخدم أجندات سلطوية أو سياسية أو أيديولوجية أو رأسمالية.
الشيطنة الإعلامية لا تكتفي بإطلاق الحكم، بل تصنع عدوّاً للشعب في ذهن المتلقّي. تُربط الجهة المستهدفة بكلّ ما هو مُدان شعبياً، وتُحرم من أيّ فرصة للدفاع عن النفس، وتُقدَّم للرأي العام رمزاً للشر أو الخطر. وعندما يتم ذلك من قبل مؤسسات إعلامية مُسيطر عليها أو مدفوعة بأجندات، يصبح الإعلام أداة قمع ناعمة، أكثر فتكاً من كثير من أدوات العنف الصلب.
الإعلام، حين ينحاز إلى نقل الحقيقة كما هي، يُصبح شريكاً في العدالة. أما حين يتحوّل إلى قاضٍ وجلّاد، فإنه يُسهم في صناعة الظلم وترسيخه
فما الذي يحدث حين تُستبدَل ساحات القانون بالتلفاز أو شاشة الهاتف؟ النتائج كارثية. أولاً، يُنسف مبدأ أساسي من مبادئ العدالة المُتمثّل في مبدأ قرينة البراءة الذي ينصّ على افتراض براءة كلّ متهم حتى تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي، حيث يُعامل الأشخاص في المحاكمات الإعلامية كأنهم مذنبون حتى تثبت براءتهم، لا العكس. وثانياً، يُصبح القضاة والمدعون العامون أنفسهم في مرمى ضغط الرأي العام، وقد يشعر بعضهم، إن لم يكن الجميع، بأنّ هناك حكماً مُسبقاً يجب مسايرته. وثالثاً، تُدمَّر السمعة الشخصية والاجتماعية للفرد، وتُسحب منه فرصه المهنية والشخصية، وقد يُعرَّض للعنف أو النبذ، حتى لو برّأه القضاء لاحقاً.
على مستوى أوسع، تؤدي المحاكمات الإعلامية إلى تقويض ثقة الناس في مؤسسات الدولة، وخلق حالة استقطاب وتخوين دائم، وتفكيك النسيج الاجتماعي، خصوصاً عندما تتورّط وسائل الإعلام في تأجيج الكراهية بين الهُويّات المختلفة، أو استهداف فئات مهمّشة في لحظات توتّر سياسي أو أمني.
العدالة الناجزة لا تدرك عبر الشاشات، ولا تُفرض عبر الميكروفونات. الإعلام، حين ينحاز إلى نقل الحقيقة كما هي، يُصبح شريكاً في العدالة. أما حين يتحوّل إلى قاضٍ وجلّاد، فإنه يُسهم في صناعة الظلم وترسيخه.
ما نحتاج إليه اليوم ليس فقط قوانين تحمي نزاهة القضاء من تدخّل الإعلام، بل أيضاً وعي جماعي ناقد يرفض الانسياق خلف الروايات المعلّبة، ويُدرك أنّ لكل قضية أوجهًا متعدّدة لا تُحسم بالعاطفة ولا بالشائعة.
قد لا نستطيع وقف المحاكمات الإعلامية بالكامل، لكننا نستطيع على الأقل أن نرفض أن نكون جزءاً من هيئة المحلفين الزائفة التي تصدر الأحكام من خلف الشاشات، من دون أن تسمع صوت المتهم، أو تمنحه حقّ الدفاع.