وهم الخلاص الفردي زمن المقتلة
ماذا لو اكتشفنا، متأخرين، أن خلاصنا الفردي لم يكن إلا طريقًا مختصرًا نحو ذبحنا الجماعي؟ غردت الكاتبة بثينة العيسى قائلةً: "الهدف ليس إبادة الفلسطيني في أرضه أو تهجيره. الهدف هو أن تخاف أنت، أن تقول يالله السلامة. أن لا تجرؤ في يوم على أن تقول: لا". تجلد مثل هذه الكلمات ظهور المتخاذلين بينما يستأنف الاحتلال الإسرائيلي إبادته الجماعية في غزة بمباركة أميركية، على مرأى ومسمع من العالم، بينما ينشغل الجميع دولًا ومؤسسات وأفرادًا بخلاصه الفردي الموهوم. ينصرف إلى مشاغله الصغيرة، وحساباته الخاصة، إلى يومياته المطمئنة محتفلًا بأعيادٍ وعباداتٍ بات بعضها فلكلوريًا متجاهلًا جوهر الأديان والإنسانية، وكأن الدم لا يسفك، وكأن الأرواح لا تُنتزع، وكأن المجازر لا تُرتكب على مرمى حجر منا.
الكارثة ليست فقط في هذا الانشغال، بل في الوهم الذي يغلفه، وهم الخلاص الفردي. هذا الوهم الذي يوسوس لنا صباحًا ومساءً بأننا إن صمتنا، وإن انحنينا للعاصفة، وإن اكتفينا بحماية أنفسنا قد ننجو ونحيا سعداء إلى الأبد فور الانتهاء من التضحية بمن تبقى من الصامدين في الأرض المباركة، متجاهلين أن الكرامة والحرية لا تُقسّمان، فإما أن نكون جميعًا أحرارًا أو سنُستعبد واحدًا تلو الآخر.
ففي زمن الطغيان، لا وجود لخلاصٍ فردي، فهذا النوع من النجاة ليس إلا تأجيلًا للمحتوم، وترحيلًا للكارثة من بيت الجار إلى عتبة بيتك. فما قيمة بيتك الآمن مؤقتًا إن بني على مقابر جيرانك الجماعية؟ فحين تسفك الدماء وتُباد المدن، لا يمكن للحياد أن يكون موقفًا، بل يصبح تواطؤًا، والصمت يغدو شركًا في الجريمة.
إن من يقفون على مسافة صامتة من الإبادة لا يدرون أنهم يقفون على "دور المسلخ"، ينتظرون دورهم في الذبح، بينما يخدعون أنفسهم باعتقادهم أن المذبحة لا تعنيهم، وأن الصراخ القادم من الجنوب لن يبلغ أسماعهم إن غيروا القنوات، أو رفعوا أصوات مكبرات الموسيقى في سياراتهم ومنازلهم.
إن من يقفون على مسافة صامتة من الإبادة لا يدرون أنهم يقفون على "دور المسلخ"، ينتظرون دورهم في الذبح، بينما يخدعون أنفسهم باعتقادهم أن المذبحة لا تعنيهم
والمؤلم أن كثيرًا من العرب لم يكتفوا بالصمت، بل تقدموا الصفوف في لوم الضحية، وتبرير جرائم جلاديها والمدافعة عن المحتل، محاولين إقناعنا بأن من قاوم الاحتلال هو المسؤول، لا من احتل وقتل وحاصر. صهاينة العرب اليوم يتحدثون بصوت أعلى من صهاينة الغرب، يبررون للقتلة، ويجرّمون من يصرخ في وجه القهر، بينما يلعب هؤلاء الصهاينة الجدد دور حراس المسالخ وهم لا يدركون أنهم مجرد أفراد في القطيع المصطف من أجل الذبح.
في المقابل، تستمر المجتمعات بانشغالها بحياتها اليومية، بمشاكلها "العادية"، بتعرفات ترامب، والحرب التجارية، وأسعار البنزين، ومباريات الكرة، ومساخر الدراما الرمضانية التافهة. بينما أجساد الفلسطينيين المدنيين تتطاير في الهواء عشرات الأمتار بفعل القذائف المرعبة، لتنهمر أشلاؤهم كالمطر مباركةً الأرض بالدماء الطاهرة، بينما يستمر الحصار من القريب قبل البعيد وانتهاك الكرامة والعدالة أمام الجميع.
يظن البعض أن الفتات الذي يحاول الحفاظ عليه من وظيفة، أو بيت، أو مصدر دخل، أو شبكة علاقات، أو فرصة للهجرة أو استقرار هش هو كنز الحياة الدنيا، ولا يدرك أن هذا الفتات سيتحول إلى رماد حين تصل نيران الطغيان إلى ذقنه. إن الركون إلى المكاسب الصغيرة في زمن الانهيار الأخلاقي ليس سوى انخراط ضمني في القتل والانتحار لاحقًا، حتى لو ظن البعض أن اليدين لم تُلطخا مباشرةً بالدماء، فالدماء قد لطخت بالفعل أيدي الصامتين منذ ثمانية عقود.
في لحظات الحسم، لا حياد ولا مناطق رمادية. إما أن نقف مع الكرامة والحرية والحياة، أو نقبل بالمذبحة. إما أن ننتفض، أو نُسحق لاحقًا بصمتنا ولو بعد حين.
هذه ليست معركة الفلسطينيين وحدهم، بل اختبار أخلاقي وإنساني لنا جميعًا. من ظن أنه بمنأى عنها، سيُفاجأ حين يدرك أنه كان يزحف نحو الذبح، على مرأى من ناظريه، صامتًا، خائفًا، متمسكًا بوهم خلاصه الفردي الذي لا وجود له، ولنتذكر أن التاريخ لا يسجل الأعذار، هو فقط يسقط الأسماء في خانتين: الظالمون والأحرار. فأي خانةٍ سنختار؟ في النهاية، ليس المطلوب أن نكون أبطال الأولمبياد، بل مجرد بشر ندافع عن حق أخينا الإنسان بما أوتينا من وسائل في زمنٍ رخصت فيه حياة الإنسان.