الشعر العربي.. سفر من الورق إلى الشاشات

22 مارس 2025
"رقصة مع أسطورتها" لمنيرة الصلح، بينالي البندقية، إيطاليا، 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يشهد الشعر العربي تحولات كبيرة مع تراجع الاهتمام به مقارنة بالرواية، واختفاء المهرجانات التقليدية، وصعود المنصات الرقمية كبديل للنشر، مما يعكس تغير الذائقة الأدبية وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي.
- ظهر جيل جديد من الشعراء يعتمد على المنصات الرقمية، مما زاد انتشار الشعر لكنه أفقده بعض العمق، وتراجع النقد الأكاديمي أدى لغياب الشعر عن المناهج الدراسية، بينما تعكس العودة للشعر العمودي رغبة في الحفاظ على النمط التقليدي.
- مستقبل الشعر العربي متنوع مع استمرار دور وسائل التواصل الاجتماعي وظهور أشكال تفاعلية جديدة، وسط مقاومة من الشعراء التقليديين للحفاظ على القيم الجمالية العميقة.

يحلّ اليوم العالمي لـ الشعر وسط تحولات كبرى يشهدها المشهد الشعري العربي، إذ لم يعد الشعر يحتل المكانة المركزية التي كان يحظى بها في العقود الماضية. بين تراجع الإصدارات الشعرية، وخفوت صوت الشعراء مقارنة بالروائيين، واختفاء المهرجانات والأمسيات الشعرية، وصعود المنصات الرقمية بديلاً للنشر التقليدي، وظهور مسابقات شعرية موجهة للجمهور الواسع، نجد أنفسنا أمام واقع جديد يستدعي التأمل. لهذا يمكن أن نسأل: ما هي أبرز سمات وملامح الشعر العربي حالياً؟ وكيف سيكون مستقبله على ضوء ما هو قائم؟

كانت الساحة الأدبية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين تعجّ بأسماء شعرية صنعت حضوراً لافتاً، على مدى عقود طويلة، مثل محمود درويش، ونزار قباني، وسعدي يوسف، وأدونيس وغيرهم، لأن هؤلاء لم يكونوا مجرد شعراء، بل ظواهر ثقافية بأبعاد سياسية واجتماعية. اليوم، لم يعد هناك "شاعرٌ نجم" بالمعنى الذي عرفناه، بل نرى انتشاراً أوسع لأسماء شعرية من أجيال مختلفة، دون أن يحقّق أحدها الهيمنة الشعرية التي عرفها أسلافه. 

يرجع هذا التحوّل إلى عوامل عدة، منها تراجع الاهتمام العام بالشعر، وتغيّر الذائقة الأدبية، وصعود وسائل التواصل الاجتماعي التي قلبت معايير الشهرة رأساً على عقب، فبينما كان الشاعر في الماضي يُنظر إليه بوصفه مثقفاً يؤثّر في الرأي العام، أصبح اليوم مجرد صوت خافت في زحمة الأصوات المتدافعة من كل حدب وصوب.

أصبح الشاعر صوتاً خافتاً في زحمة الأصوات المتدافعة

من جهة أخرى، مازالت صناعة النشر العربية تشهد حالة من النفور الشديد تجاه الدواوين الشعرية، إذ باتت دور النشر ترفض إصدارها نظراً لضعف مقروئيتها وقلة الطلب عليها مقارنة بالرواية، وحتى الجوائز الأدبية الكبرى، مثل "البوكر العربية" و"جائزة الشيخ زايد" و"كتارا" لا تهتم بالشعر، وإنما هي موجهة إلى الرواية فحسب، ما دفع العديد من الشعراء العرب إلى شبه هجرة جماعية نحو السرد، في محاولة لتجاوز ورطة الشعر أو الانسجام مع "روح العصر"، كما اختفت الدوريات الثقافية الكبرى التي كانت تنشر الشعر بكثافة في السبعينيات والثمانينيات، إذ أصبحت اليوم تخصص مساحة أكبر للسرد والمقالات النقدية، ولم يعد هناك مجال أمام الشعراء سوى البحث عن بدائل رقمية أو النشر الذاتي.

في هذا السياق، ظهر جيل جديد من الشعراء لا يرى في النشر الورقي وسيلة ضرورية لإثبات الذات، بل يراهن على الظهور في المنصات الرقمية، سواء عبر التدوين أو التسجيلات الصوتية والمرئية، هؤلاء الشعراء ينظرون إلى الإنترنت باعتباره فضاءً أوسع انتشاراً وأقل تكلفة، ما جعل الشعر يصل إلى جمهور مختلف، يتفاعل معه عبر التعليقات والمشاركة الفورية، وأكيد أن هذه الظاهرة جعلت من الشعر أكثر انتشاراً، لكنه في المقابل فقد بعضاً من عمقه، إذ بات سريع الاستهلاك وغير خاضع للتقييم النقدي الموضوعي والبنّاء. 

ملمح آخر من ملامح واقع الشعر العربي، هو تراجع النقد الأكاديمي على نحوٍ غير مسبوق، إذ كان الشعر العربي لعقود طويلة محورَ المناهج الدراسية والدراسات النقدية، وموضوع رسائل وأطروحات جامعية عميقة ومبتكرة، لكننا اليوم نلمح تراجعاً ملحوظاً في الاهتمام به داخل الجامعات والمؤسسات التعليمية، فقد باتت الأبحاث الأكاديمية تميل أكثر إلى دراسة الرواية والأنواع السردية الأخرى، ما أدى إلى غياب أسماء شعرية كانت محوراً في التعليم المدرسي، وهذا التحول يعكس تغيراً في الذائقة العامة، لكنه في الوقت نفسه يطرح تحديات حول كيفية إبقاء الشعر حاضراً في وجدان الأجيال الجديدة.

وتعكس أيضاً العودة القوية للشعر العمودي في الفعاليات الثقافية والبرامج التلفزيونية مثل "أمير الشعراء" و"شاعر المليون"، رغبةً في إعادة فرض نمط شعري محدد بوصفه المعيار الجمالي الأرقى، في مواجهة الفوضى التي خلّفتها الحداثة الشعرية وتنوّع أشكال التعبير، لكن هذا الاستدعاء ليس بريئاً تماماً؛ فهو ينطوي على نزعة محافظة تسعى إلى ضبط الإبداع ضمن قوالب مألوفة، إذ يصبح العمود الشعري أداةً لفرض تصورات جاهزة عن الفصاحة والبلاغة، متجاهلاً التحولات العميقة في بنية اللغة وأساليب التعبير المعاصرة، هذا التمجيد الممنهج يتجاهل حقيقة أن الشعر ليس مجرد وزن وقافية، بل هو أيضاً تجربة وجودية ومغامرة في اكتشاف المعنى، وهو ما سعت قصيدة النثر إلى تكريسه منذ عقود، رافضة الخضوع لإيقاع الصدى الجماهيري الذي يبحث عن إبهار لفظي أكثر من جوهر تعبيري أصيل.

في المقابل، حاولت هذا السنة بعض المنصات الثقافية إدراج قصيدة النثر ضمن مشهد تنافسي، كما في برنامج "المعلّقة"، لكنها فعلت ذلك عبر تطويعها لمتطلبات العرض المسرحي، وهو ما فرض عليها أن تكون أقرب إلى الأداء الصوتي منه إلى النص المكتوب، مما قد يفرغها من جوهرها القائم على التأمل والتجريب اللغوي الحر. هذا التصادم بين الشعرية المتجذرة في الإلقاء والشعرية الحديثة التي تقوم على الكتابة وحدها يكشف إشكاليةً أعمق: هل يمكن لقصيدة النثر أن تنافس داخل بنية ثقافية ما زالت تشترط الإيقاع والجزالة معاييرَ للحكم؟ أم أن الحداثة الشعرية تظل بطبيعتها عصيّة على الاحتواء ضمن الأطر التقليدية؟ في النهاية، يبدو أن هذا المشهد يعكس صراعاً غير محسوم بين التقاليد الشعرية الراسخة ومحاولات التجديد، إذ يُمنح الشعر العمودي موقع التفوق الرمزي، فيما تستمر قصيدة النثر في معركتها لإثبات شرعيتها خارج المهرجانات والأضواء.

إذا كان الشعر العربي اليوم يعيش حالة من التحولات الجذرية، فما الذي يحمله المستقبل؟ يبدو أن الشعر سيظل حاضراً، لكن بأشكال مختلفة، وستستمر وسائل التواصل الاجتماعي في لعب دور رئيسي في نشره، وقد نشهد ظهور أشكال جديدة من الشعر التفاعلي المدعوم بالذكاء الاصطناعي. في المقابل، ستظل هناك مقاومة من الشعراء التقليديين الذين يؤمنون بضرورة العودة إلى القيم الجمالية العميقة للشعر. 

إن الشعر العربي، رغم كل التحديات، مازال حيّاً، لكنه يعيد تشكيل نفسه وفقاً لواقع جديد، وسيظل جزءاً أساسياً من الثقافة العربية، وإن كان ذلك بأساليب تعبيرية مختلفة عن الماضي. علينا أن نتأمل عميقاً في هذه التحولات ونسأل: كيف يمكن لشعرنا العربي أن يستعيد دوره في الحياة الثقافية، دون أن يفقد هويته وعبقريته الضاربة في التاريخ؟


* شاعر من المغرب

المساهمون