"بلاد لا تشبه الأحلام" لبشير البكر.. سيرة ناقصة ومؤجلة

12 مايو 2025
بحثٌ عن بدايات ممكنة تحت الركام
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يقدم بشير البكر في "بلاد لا تشبه الأحلام" سردية تجمع بين الشعر والتوثيق، مستعرضًا تاريخ منطقة الجزيرة السورية وهويتها الثقافية والاجتماعية، بعيدًا عن التشويه الأيديولوجي.
- يتنقل البكر بين سوريا ولبنان وفلسطين ومدن أخرى، مستندًا إلى سيرة ذاتية وشهادات حية، محاولًا تحويل التجربة الذاتية إلى سرد جماعي يعيد الحياة إلى تاريخ الإنسان البسيط.
- بأسلوب يجمع بين الواقعية والتخييل، يسعى البكر لتوثيق التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي، معبرًا عن الأمل في استعادة الحرية والانفتاح الاجتماعي في سوريا.

في عمله الجديد الصادر عن دار "نوفل – هاشيت أنطوان" بعنوان "بلاد لا تشبه الأحلام" (2025)، يقدّم الكاتب والصحافي السوري بشير البكر سردية غير تقليدية عن سورية، تمتد عبر 252 صفحة من القطع المتوسط، تحمل في طياتها كتابة تمزج بين الشعر والتوثيق، الذاكرة والتاريخ، الذات والآخر، في محاولة لإعادة الاعتبار إلى إنسان هذا البلد ومكانه وهويته الثقافية والاجتماعية.

لا يكتب البكر من مسافة، بل من عمق التجربة، ومن ذاكرة لم تبرأ بعد من وجع الفقد والغربة، بوصفه مؤرخاً للوجدان السوري. يمضي في روايته كمن يعيد بناء وطن مكسور بالحبر، وطن يُكتب عبر سرد حميمي عن منطقة الجزيرة السورية، بخصوصيتها الثقافية واللغوية، وثراء مفرداتها، بعيداً عن التشويه الذي فرضته الأيديولوجيات والحروب.

يروي البكر حكاية أهل المنطقة المغيّبة ثقافياً، وينتقل عبر محطات في سورية ولبنان وفلسطين، إضافة إلى مدن في أوروبا والعالم العربي. ينطلق من سيرة ذاتية، ويدوّن شهادته على أحداث عاشها أو عايشها، ضمن رؤية متكاملة لتاريخ سورية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. كان لذلك الزمن أن يؤدي إلى تحوّل عميق لدى أولئك الذين عاشوا "تاريخهم الممنوع"، وهذا ليس بالأمر السهل في بلد مثل سورية.

يرسم محطة بين زمنين: زمن الصراع، وزمن الدفء في الحسكة

لا تعود الذاكرة، كما يكتبها البكر، إلى سير ذاتية فردية فقط، بل تنسج علاقة دقيقة بين ما يسميه "التاريخ المعيوش" و"التاريخ الطبيعي". فالرواية ليست فقط عن الماضي، بل عن محاولات فهم الحاضر من خلال استعادة المهمّش والمنسي. هي كتابة تسعى إلى تحويل التجربة الذاتية إلى سرد جماعي، وتعيد الحياة إلى تاريخ الإنسان البسيط، ذلك الذي لا يجد مكاناً له في كتب التاريخ الرسمية.

ولأجل ذلك، ينخرط البكر في أسلوب كتابة يحاول تشكيل الحقيقة التاريخية. هذا الأسلوب كان أساس عمله الصحافي، كما في كتاباته السياسية وأعماله الشعرية. يكافح، من خلاله، ليجعل بلده أفضل وأكثر إيجابية، جامعاً بين الواقعية والتخييل الروائي، ومنطلقاً من الخاص إلى العام، رابطاً بين المؤرخ والصحافي في توثيق التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي.

يمضي المؤلف في نصه مثل قطار طويل اجتاز صحارى شاسعة، عبر مدن على حافة الخطر، يتوقّف في محطات، ثم يتحرك مجدداً. لا مهرب من العودة إلى الحنين، إلى الوراء، إلى ذلك الإحساس الجمالي بالانتقال من الذات والأغاني على "ضفاف الخابور"، إلى الجماعية بإرادة السلام وحدس الحرب السورية العمياء. فالذئب فوق الجبل، والممزق بالرصاص وسط دمشق، هما رمزان لمشهد يُقرأ بحاسة الفزع من زمن يسير في اتجاه واحد.

يرسم البكر محطة بين زمنين: زمن الصراع، وزمن الدفء في الحسكة. الانطباعية الجذرية يعززها نبض الأرض، وتطلعات الشباب السوري، والمجتمع بكامل فسيفسائه وطقوسه وتقاليده. يشير إلى مدى اقتراب الأحلام من التعبير والتنوع والحرية، قبل أن تتحوّل البلاد إلى مختبر للظلم والطغيان والتخلف. إلى كتلة تاريخية مغلقة بأدوات السلطة والفوضى، حيث انكسرت أساليب العيش في المدن والأرياف.

ورغم كل شيء، يأتي البكر محمّلاً بهوامشه الثقافية المتفائلة، التي صمدت مع بعض النخب السورية، وتحركت في العالم، محاولة الحفاظ على ما يمكن أن يشكّل بداية جديدة لبلاد يراد لها أن تعود إلى حريتها، وانفتاحها، وطليعيتها الاجتماعية.
سيرة بشير البكر، بهذا المعنى، سيرة ناقصة ومؤجلة، تتجاوز الواقعية بجمودها، وتنطق بلغة المتخيَّل. ويبدو أن خروجه من سورية لم يغيره كثيراً، بل جاء من رفقة طويلة، تنظر دائماً إلى أماكن الذاكرة الأولى، حيث كانت الحياة السورية شاعرية وبسيطة، قبل أن تتحول إلى أوضاع بلا مخرج.

الرواية تعالج الأثر، محاولةً إعادة الأمور إلى جذورها، ولو عبر اعتراف صريح بما فعلته الأحداث من فوضى. إنها معادلة بشير البكر، وحرفيته العالية، في نصوص غير تقليدية، وصرخة موجوعة متراكمة، تواجه فشل السياسة، وتواجه النهايات التي بلغها البلد، وتسحقها اليوم أخبار العنصرية، والطائفية، والاحتجاجات، والحياة السورية التي فقدت بوصلتها.


* أكاديمي ومترجم لبناني

المساهمون