جيمس مكبيه.. توثيق الثورة العربية الكبرى بالرسم
استمع إلى الملخص
- رغم شهرة أعمالهم عالمياً، إلا أنها غير معروفة في العالم العربي بسبب النظرة السلبية لإرث الجيوش الغربية، لكن اكتشافها يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة للأجيال الحالية.
- توثيق أعمال رسامي الحروب يمكن أن يغير سردية التاريخ، مقدماً رؤى جديدة للأحداث التاريخية، مما يعزز فهم الباحثين العرب لماضيهم وموقعهم العالمي.
لوقت طويل، وُثّقت الحروب عبر فنانين يحملون صفة مهنية هي "رسامو الحروب"، حيث كانوا يرافقون الجيوش في حلّها وترحالها ومعاركها وهزائمها، ويرسمون قادتها، ويستفيدون من هذه الأسفار الخطرة ليخرجوا بالقليل من اللوحات الخاصة. اختراع الكاميرا قضى على هذا العمل، لكن الأثر الذي تركه أولئك الفنانون بقي معروضاً في المتاحف، ليكون شاهداً من نوع خاص، وبطريقة معبّرة عن مآسٍ خاضتها البشرية، ولا سيّما في الحروب العظمى.
جيمس مكبيه (James McBey) (1959 – 1883) واحد من أولئك الفنانين الذين أُتيحت لهم الفرصة لأن يتجوّلوا في المنطقة العربية خلال واحدة من أبرز لحظاتها التاريخية، حيث رافق القوات البريطانية العاملة مع قوات الشريف حسين في الثورة العربية الكبرى، ووصل معها إلى دمشق. لم يكن مكبيه الاسكتلندي رسام الحرب الوحيد المرافق للقوات البريطانية، بل كان هناك رسام آخر من الجيل نفسه، هو الفنان إريك كينينغتون (Eric Kennington) (1960 – 1888) الذي رافق لورنس العرب في الحجاز وسورية أيضاً.
وقد اشترك الاثنان في تسجيلهما رسماً لتقدّم القوات البريطانية والأسترالية والعربية، وفي رسمهما لوحتين شخصيتين للورنس، لكنهما ذهبا في اتجاهين مختلفين في التعاطي مع الطبيعة والسكان الذين قابلوهم خلال رحلتهما. بينما رسم كينينغتون البورتريه للمقاتلين العرب المشاركين في الحملات، ذهب مكبيه نحو لمسات إنسانية أشد قرباً من الطبيعة والبشر والأمكنة، حيث تُظهر صور لوحاته المعروضة في غير متحف، أنه سعى لتصوير العديد من المشاهد التي تجمع كلاً من القوات المتقدّمة مع سكان المناطق التي تدخلها، ثم عاد ليرسم الأمكنة الطبيعية، ولم ينسَ أن يرسم أماكن لافتة لأي زائر يأتي إلى مدن عربية تاريخية كدمشق، ليسجّل بريشته بعضاً من التفاصيل التي استرعت انتباهه، ويُخرجها إلى سجلّ لوحاته الممتد زمنياً حتى تاريخ وفاته.
رافق الفرق البريطانية العاملة مع قوات الشريف حسين
أعمال رسام الحرب مكبيه، على غرار أعمال كينينغتون، معروفةٌ على الصعيد العالمي، ويُشار إليها كلما سنحت فرصة للحديث عن دور الفن في توثيق الحروب. لكنها تبقى شبه مجهولة في المنطقة العربية، وقد يعود ذلك إلى موقف عام، مصدره النظرة غير الودودة لإرث الجيوش الغربية التي ساهمت في ترسيخ الاستعمار، وتركت، بموجب الاتفاقيات بين المستعمرين (سايكس – بيكو)، المنطقة مقسّمة، وتعاني حتى اللحظة من تبعاتها، في فلسطين المحتلة.
غير أن العودة إلى ما تركه هؤلاء من أعمال فنية تختص بالمنطقة، قد تشكّل اكتشافاً بحد ذاته بالنسبة إلى الأجيال الجديدة. وهذا ما جرى مع المعماري والمصمم السوري الشاب عز الدين سبيني، الذي كتب عن جيمس مكبيه "بحثاً" أصدره إلكترونياً في موقع "أرشيف الإنترنت العالمي"، ليعرض من خلاله أعمال هذا الفنان للقارئ العربي.
في وقتٍ ما، يصبح هاجس المرء وهو بعيد عن وطنه، الإمساك بأي شذرة يجدها في طريقه تذكّره به. تحديداً من هذا الإلحاح انطلق بحث عز الدين سبيني، عندما كتب في مقدمة كتابه عن فرحه برؤية لوحة تُصوّر فيصل ابن الشريف حسين، ملك الدولة السورية الأولى بين عامي 1918 و1920، في "متحف أبردين للفنون" في اسكتلندا، خلال إجازة الصيف في العام الماضي، حيث نقل تفاعله مع اكتشافه إلى والده وأخيه اللذين شجعاه على المضي في استكشاف القصة، فلم يألُ جهداً في ذلك، وأعدّ خطته لمشاهدة لوحات مكبيه وصوره التي التقطها بنفسه وهو يسجّل رحلته الحربية، عبر زيارة "مركز أبردين للكنوز" حيث اطّلع على أعمال الرسام المصوّر.
اكتشاف صورة مجهولة عن أحداث المنطقة قد يغيّر سردية التاريخ
قرّر سبيني أن ينقل للقارئ العربي خلاصة عن أعماله بالتوازي مع عرض تاريخي سعى من خلاله لوضع المادة المصوّرة في سياق الأحداث التي جرت خلال تلك الفترة، حيث تصبح العودة للمراجع التاريخية واجبة، ولا سيّما تلك التي تحدّثت عن معركة دمشق بين القوات البريطانية وجنود الثورة العربية الكبرى وجيش الدولة العثمانية، التي بدأت بتاريخ 26 سبتمبر/ أيلول 1918، وحُسمت المعركة بانتصار الجيش البريطاني والقوات العربية وتسليم دمشق للأمير فيصل الأول بتاريخ 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1918.
التقاطة عز الدين سبيني مهمة جداً، فهو ينتشل من المحفوظات التاريخية صوراً لم يرها القارئ السوري عن تاريخه. فهنا، للمرّة الأولى، نرى صوراً عن المعارك التي خاضها المتقدّمون مع آخرين حاولوا إبداء المقاومة، ولو بشكل بسيط، وهذا ما تدلّ عليه صور عن معركة ما جرت في ضاحية دُمَّر في غرب دمشق، إذ نرى في المشهد عربات مدمّرة وجثثاً مبعثرة. وبينما يذكر سبيني أنَّ الصور توثّق الهجوم على قوات عثمانية حاولت الانسحاب، نرى أن هذا الأمر يحتاج إلى تدقيق، طالما أن الصور الأخرى توثّق بدورها وجود آلاف من الأسرى العثمانيين، حيث لا بدّ من طرح السؤال عن دواعي مهاجمة المنسحبين دون مقاومة؟
اكتشاف الصورة المجهولة المُلتقطة عن أحداث تاريخية لا يغيّر في مسار الواقع، بل يمكن، إذا احتوت معطيات جديدة، أن يغيّر في جزئيات من سرديّتنا المتداولة عن التاريخ نفسه. كذلك إن تأمل اللوحات الفنية يمكن أن يوسّع من مجالات التقاطعات بين ماضينا وماضي الشعوب الأخرى. فهنا ثمّة رسّام ومصوّر حربي، ليس مهجوساً بالنظرة الاستشراقية المعتادة والمتوقعة، بل يريد أن يلتقط لحظة جمالية بريشته، تخفّف ربما من قسوة ما تسجّله الصورة الفوتوغرافية.
من هذه الزاوية، يمكن التعاطي من دون ضغائن، مع الكثير من أعمال الزائرين للمنطقة العربية في أزمنة متباعدة. كذلك يمكن التدقيق في موقع بلداننا في المشهد العالمي الأوسع، فهنا حياة بأكملها عاشها جيمس مكبيه، مضت دروبها بين أوروبا والشرق العربي والولايات المتحدة الأميركية، ثم العودة إلى المغرب والاستقرار هناك حتى الممات، برفقة شريكة حياته، مارجيري مكبيه، التي يُفرد لها عز الدين سبيني عدّة صفحات في كتابه الموجز، مبرزاً دورها في إبقاء أعمال زوجها حاضرة دائماً في الدوائر الفنية الغربية.
يمكن اعتبار توثيق ما صوّره ورسمه مصوّرو الحروب مادة مثيرة، تستحق أن يتفرغ لها بعض الباحثين العرب، لعلّ ذلك يساهم في توثيق ما فات القارئ معرفته، عمّا استرعى اهتمام الآخرين في حياة أجداده، بعيداً عن الصورة النمطية المعتادة.
* شاعر وناقد سوري