زردة علي بن عون... موسم صوفي بطقوس احتفالية

25 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 08:03 (توقيت القدس)
جانب من المهرجان (تصوير: نور الدين أحمد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- مهرجان الزردة في تونس يُقام سنويًا في ضريح سيدي علي بن عون منذ عام 1808، ويجذب مئات الآلاف رغم تراجع الطرق الصوفية، ويُعتبر رمزًا لاستتباب الأمن وحضور الدولة بعد الثورة.
- العلاقة بين السلطة والصوفية في تونس متوترة، حيث سعت السلطات لاحتواء الحركات الصوفية وتطويعها كأداة حكم، ورغم محاولات التصفية، استمرت بعض الحركات في التأثير السياسي.
- الزردة تمثل التصوف الشعبي في شمال أفريقيا، حيث حافظت على الطقوس التراثية مثل الشعر الشعبي والفروسية، لكن دور الشعر الشعبي تراجع كأداة احتجاجية وسياسية.

مع دخول موسم الأمطار الصيفية، وفي ليالي اكتمال القمر، يتوافد سكّان مناطق وسط تونس إلى زيارة ضريح الوليّ سيدي علي بن عون، الذي عاش خلال القرنَين السابع عشر والثامن عشر، إذ يقدّمون الأضحيات التي نُذرت لتحقيق أمنياتهم، بعد أن تُنصب الخيام وتقام الأسواق، وتنظّم عروض الفروسية لأربعة أيام، في طقوس "الزردة" التي درجت العادة على تنظيمها منذ عام 1808.

وقع الاختيار هذا العام على الثالث والعشرين من الشهر الجاري، لتنظيم هذا التقليد الصوفي القديم، الذي تحوّل إلى مهرجان تتواصل دورته الـ23 حتّى مساء الخميس المقبل، ورغم انحسار الطرق الصوفية وممارساتها الشعبية الاحتفالية في المنطقة، إلّا أن وقوع الزاوية في منطقة نائية، وتوارث سيرة كاريزماتية لابن عون، ساهم في استمرار التظاهرة التي تستقبل مئات آلاف الأشخاص.


ثنائية الاستقلال والاحتواء

يكشف توفيق البشروش في كتابه "الولي الصالح والأمير في البلاد التونسية" (1989) عن علاقة متوترة بين السلطة من جهة والمتصوفة أفراداً أو طرقاً، إذ سعت السلطات مبكراً لاحتواء هذه الحركات وتطويعها أداةَ حكم، سواء في العهد الحفصي أو خلال فترات الحكم العثمانية، وكذلك فترة الاستعمار الفرنسي. ومن جهة أخرى، سعت التيارات الصوفية إلى التمدّد والتحول لنماذج سلطة بديلة، في فترات ضعف الحكم المركزي، سواء خلال الحروب الأهلية في القرن الحادي عشر أو مع الإمارة الصوفية الشابية في القرن السادس عشر، وإلى حدود ثورات 1864 و1906. 

لا يزال هذا التحليل صالحاً لليوم، لتفسير علاقة السلطة الحديثة برواسب الحضور الصوفي، ومنها زردة سيدي علي بن عون، فعلى خلاف المقولة السائدة، حول نجاح دولة الاستقلال في تصفية الحركات الصوفية، إثر حلّ الأوقاف سنة 1957 وتأميم الزوايا وإلغاء الامتيازات الرسمية المخصّصة لها، نجحت بعض هذه الحركات في مواصلة تأثيرها السياسي. 

سعت السلطات مبكراً لاحتواء الزوايا وتحويلها إلى أداة لها

وفي دراسة "مؤسسة الزاوية بالبلاد التونسية وتحولات وظائفها: زاوية سيدي علي بن عون نموذجاً" (2018)، يشير عبد الكريم براهمي إلى ما مرّت به الزردة من مراحل، بداية من تهميش دولة الاستقلال الأولى، ذات التوجه العلماني الصريح، لهذا الحدث باعتباره مظهراً من رواسب مرحلة ستطويها التنشئة الوطنية الحديثة، لكنّ تنامي حركات الإسلام السياسي منذ أواسط الثمانينيات، دفع نظام زين العابدين بن علي إلى خلق حالة من التصالح مع التراث الديني المجتمعي لضرب القاعدة الجماهيرية للحركات الإسلامية، فمُنحت الزردة أوّلَ غطاء رسمي لها كمهرجان وطني سنة 1992. وبالتالي أخضعتها الدولة لرقابتها وتوجيهها المباشر. وبعد الثورة، ومع تنامي الحركات الأصولية في مدينة سيدي علي بن عون مرة أخرى، عادت السلطة لتراهن على الزردة ، لتكون عنواناً لاستتباب الأمن وحضور الدولة وتشبث السكّان المحليين بنموذج الإسلام "التونسي المعتدل". 

مقابل ذلك، كشَفت الزردة عن قدرتها أحياناً في استرجاع ميراثها الصوفي بوصفها فضاءَ احتجاج ضدّ النظام وتهميشه للمجتمع المحلي. وهو ما جرى فعلاً سنة 2009، عندما اندلعت بمناسبتها اشتباكات عنيفة بين السكّان وقوات الأمن، أدت لاتخاذ قرارٍ بتعليق المهرجان، وهو القرار الذي سيُلغى بعد اندلاع الثورة في 2011. وبذلك حافظت هذه المناسبة الصوفية على زخم سياسي، وإن كان محلياً.


ثقافة شعبية مسيّسة

ربما تعدّ المناسبة اليوم مثالاً نموذجياً للتصوّف الشعبي في شمال أفريقيا. لكن هذه الممارسة لم تنجح في إنتاج مادة ثقافية أو معرفية، بل حافظت بصورة شبه مطلقة على المخزون التراثي الشعبي البحت، من مظاهر طقوسية أو احتفالية بدوية كلاسيكية مثل الزيارة والوعدة والمديح والشعر البدوي والفروسية.

لم تنجح التظاهرة الشعبية في إنتاج مادة ثقافية أو معرفية

وبالرغم من الإطار الهيكلي الحديث لهذه التظاهرة، الذي ساهم في إدخال مظاهر حديثة للبرمجة، مثل الفعاليات الغنائية والمسرحية على امتداد ليالي الزردة الأربع، إلّا أن تطعيمه بأنشطة فكرية أو معرفية من نفس الطابع الصوفي أو الأكاديمي بقي شبه منعدم. وبذلك انقطع الزخم الروحي، والذي كان من الممكن أن يربط هذا الفضاء، بآخر معاقل إنتاج المعرفة الفكرية الصوفية الحديثة في المجال المغاربي، مثل زوايا واد سوف في الجزائر والزاوية الأسمرية في زليتن ليبيا والزاوية البودشيشية في المغرب. 

واقتصر المنتج الثقافي على روافده الشعبية المعاصرة والتراثية، في الآن نفسه، ولعل الشعر الشعبي أو الملحون، يعتبر أبرز مثال على ذلك. فمنذ نهاية السبعينيات، برزت سياسة ثقافية رسمية هدفها توفير فضاءات للاحتفاء بالشعر الشعبي على غرار بعث برامج إذاعية شهيرة من قبيل "قافلة تسير" أو مهرجانات الشعر الشعبي بالجنوب الشرقي. وشكّلت الزردة فرصة لهولاء الشعراء لتقديم إنتاجهم، ومع تحول الحدث إلى مهرجان وطني سنة 1992، مُنح الشعر الشعبي ركناً ثابتاً ضمن الفعاليات الرسمية. وأصبح المهرجان سبباً رئيسياً في شهرة عدد من الشعراء، وعلى رأسهم نجيب الذيبي، غير أن هذا الفضاء التفاعلي، لم ينجح نهايةً في الإفلات من التوظيف السلطوي المزدوج: توظيف السلطة للفضاء الصوفي وتوظيفها في الآن نفسه للثقافة في سبيل خلق علاقات زبائنية  تخدم الدعاية الرسمية للنظام. 

في دراسته السابقة، أشار براهمي لهذه الظاهرة التي تجذرت في نهاية التسعينيات، عندما اقتصرت فيها الهيئة المشرفة على المهرجان، والقادمة من خلفية ثقافية وإدارية، وليست صوفية، على دعوة الأسماء الشعرية الموالية للنظام صراحة أو ضمنياً، وعلى خلاف السائد من نبرة احتجاج وتمرّد ضمن مدونة الشعر الشعبي، مثل تلك التي جمعها في أعماله الكاملة محمد المرزوقي، تحولت المواضيع الغالبة ضمن الأعمال المقدّمة خلال المهرجان، إلى الاحتفاء بشعارات السلطة وقيمها والمفاخرة الفردية، دون أن تحمل أي شحنة سياسية أو معارضة، أو حتّى احتجاجية صوفية، كما كان دارجاً في السماع البدوي الكلاسيكي. وهنا عاينت الزردة، تحولات هذه اللون الأدبي، بل وحتّى تراجعه في السنوات الأخيرة، مع رحيل الذيبي وبلقاسم عبد اللطيف، وإلغاء هذه الفقرة من التظاهرة الرسمية ضمن البرمجة الأخيرة.

والشعر الشعبي هنا، ليس سوى مثال على قدرة الزردة على خلق فضاء لا يقتصر على تأدية الوظيفة الدينية والروحانية كما يفترض فيه باعتباره حدثاً صوفياً، وإنما بوصفه فضاءً أكثر تعقيداً، يتقاطع فيه الروحي مع كلّ من السياسي والثقافي، في حركية دائمة.

المساهمون