استمع إلى الملخص
- يعكس النشاط السياسي رغبة السوريين في إثبات وجودهم وتعويض الحرمان السابق من الحرية السياسية، متجاوزين مجرد تكوين صوت قوي للجماعات.
- التحدي الأكبر للتيارات الجديدة هو التزامها بالديمقراطية وتجاوز النزاعات السابقة، مما يعكس الصراع بين التخلص من آثار الماضي والانفتاح على مستقبل ديمقراطي.
في كلِّ يومٍ، منذ شهرين تقريباً، أي منذ إسقاط النظام السوري، يصل إلى حسابي على فيسبوك بضع دعوات إلى الانضمام إلى أحد التيّارات السورية الناشئة التي تتشكّل في البلاد أو خارجها. وإذا كان في هذه الدعوات من أمرٍ مُشرق، فهو أنَّ السوريّين الذين خرجوا من عهد الظلام المُغلَق، باشروا فوراً محاولاتهم لتشكيل الحوامل التنظيمية لهمومهم السياسية والاجتماعية، من جهة، وكسروا ذلك الخوف من تشكيل الأحزاب أو الكتل والتيارات، الذي كان يؤدّي بهم، أو بنا جميعاً بالطبع، إلى الاعتقال، من جهة ثانية. هكذا تبدو سورية اليوم ورشات عملٍ ضخمة تتسابق جميعها لإعلان أنها هي التي ستحمل أمانة بناء العهد الجديد.
لِمَ هذا كلّه؟ ربّما هي شهوة السوري لإثبات الوجود، فقد كان السوريون مغيّبين ومُراقبين. أقصوا عن المشاركة في تنظيم وتقرير مصائرهم الشخصية والمصائر الجمعية معاً. وفيما بدا في الزمن السابق حالة من الحذر من الآخر، القريب والبعيد، بحيث بدت حالة "الاستياء" التي يشير إليها الروائي الهندي بانكاج ميشرا في كتابه "زمن الغضب" (صدر عن عالم المعرفة) حيث يوضع كل فرد في مواجهة مع الأفراد الآخرين، شديدة الخصوصية بالنسبة إلى السوري، إذ إنّها تنجم عن ضغوط السلطة الغاشمة على جميع أفراد الشعب، بحيث تولد حالة الغضب التي قد تثير نزاعات عنيفة يعتدي فيها أفراد أقوياء قليلاً على آخرين لأسباب غاية في البساطة.
كلّ سوريّ يريد أن يقول: أنا هنا، وهو أمر مشروعٌ ومطابقٌ للحرّية
في الجزء الأهم من هذا التحرّك السريع، توجد تلك الجمرة التي اعتقدنا أنّها ترمّدت وتلاشت من نفوسنا، بينما كانت في الحقيقة تُخفي شرارة الإيمان بالمستقبل، وهذا هو المتغيّر الجديد العظيم الذي أحدثه سقوط النظام القديم، وبزوغ نظام جديد آخر، يقدم وعوداً مختلفة تماماً.
لهذا تبدو هذه الحماسة لتشكيل التيارات والأحزاب نوعاً من التعويض عن الحرمان، تتجاوز الرغبة في تكوين الصوت القوي الذي يعبّر عن الجماعات.
ثمّة من يمزح بأننا نشبه المَثل: "حزين وقع في سلة تين"، بما يشبه هجوماً على السياسة، وبخاصّة تلك السياسة التي كانت ممنوعة أو محظورة، إلا في نطاق الطاعة.
من الواضح أن الوضع الجديد، الذي يبدي فيه السوريون هذه الرغبة في خلق الجماعات السياسية أولاً، ثم المدنية والنقابية، يُحدث صراعاً بين مفعول حالة الاستياء التي لا تزال حاضرة، ومفاعيل الرغبات في التخلّص من آثار الماضي في ظلّ انفتاح الأمل بالمستقبل. وهذا قد يفسر سرّ الانقسامات التي لا تتوقّف في الساحة السياسية السورية، فكلُّ سوريٍّ يريد أن يخرج من العباءة ليقول: أنا هنا. وهذا حقٌّ مشروعٌ وإنسانيٌّ ومطابقٌّ للحرية التي أردناها.
غير أنَّ الجوهري في فكرة بناء التيارات والأحزاب الجديدة هو المدى الذي يؤمن فيه أولئك الأفراد الذين يقررون بناء التنظيم المشترك بالديمقراطية في الممارسة السياسية داخل الحزب أو التيار أو الحركة أو التجمّع، بقدر ادعائهم الإيمان بها في المجال العام أو في المجتمع. بينما قد يضع النشاط السياسي الفردي فكرة العمل السياسي في خانة الاستياء القديمة والنزاع مع الآخر، بحيث قد يخشى المرء أن نخرج جميعاً أخيراً من السلّسة بلا ذلك التين الذي اشتهيناه.
* روائي من سورية