استمع إلى الملخص
- تُعد "الليلة" الشكل الفرجوي الأسمى لدى كناوة، حيث تتضمن مراحل متعددة تبدأ بقرع الطبول وتنتهي باستحضار الأرواح، مما يخلق تجربة جماعية ذات طابع رمزي وروحي.
- تتضمن الاحتفالات الكناوية رقصات تعبر عن حالات وجد روحانية، مثل رقصة الثعبان والحيوان، مما يعكس سردية مسرحية لذاكرة العبيد والهوية الجريحة.
في كتابه "المسرح والهويات الهاربة: رقص على حد السيف" (منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2019)، يرى أستاذ الأدب والمسرح والباحث المغربي خالد أمين أن "المسرح أصبح بؤرة للفعل السردي"، وأن المنعطف ما بعد الدرامي لهذا المسرح يرتكز على مجموعة من العناصر الدالة، مثل اللعب بكثافة العلامات المسرحية؛ الفيزيقية؛ الجوقية؛ الاهتمام المتزايد بالرقص.. إلخ.
هذا هو التوسيع الذي تعرفه فنون الفرجة المتجذرة في المتخيل الشعبي المغربي، والمنفلتة من قبضة التمركز الأوروبي، ومنها الفرجة التي تقدمها فرق كناوة التي لا تسعى، كما يقول بذلك الأنثروبولوجيون (زينب المجدولي؛ إيروان دولون؛ مبارك الحوزي؛ عبد الحفيظ الشيلح؛ بيير ألان كليس؛ بيرتراند هيل.. إلخ)، إلى الإيغال فقط في طقس مخاطبة أرواح العالم السفلي (ملوك الجان)، أو إلى العزف على آلاتهم الموسيقية: الكنبري، الطبل، القراقب (الصنوج)، لإخضاع مريدي الدردبة "الليلة" للتطهير والعلاج، إذ لا مناص من النظر إلى هذا الطقس الروحاني بوصفه فرجة كبرى تقوم على عناصر متعددة: اللباس، الإيقاع الموسيقي، الحركات الجسدية، الرقص المسرحي. ذلك أن كل هذه العناصر تتداخل في ما بينها لتنتج شكلاً مسرحياً فريداً، وتخلق تجربة فرجوية جماعية استثنائية ذات طابع رمزي.
وإذا كانت "الليلة"، التي تُعدّ الشكل الفرجوي الأسمى لدى كناوة بمدينة الصويرة المغربية، تبدأ بتجهيز المكان (زاوية/ ضريح سيدنا بلال) والذبيحة (تيس)، حيث يُنظّم الفضاء في حلقة مركزية، ويُضاء المكان إضاءة خافتة، كما يتم إشعال البخور من طرف القيمة على الزاوية (المقدمة زايدة)، ويرتدي العازفون ملابس خاصة، مما يُهيئ الأجواء للانتقال إلى عالم الأرواح (لملوك)، فإن هذه الليلة لا تكتمل إلا من خلال المرور بأشكال فرجوية أخرى تسبق الاحتفال في فضاء الزاوية، ذلك أن الحفل يبدأ عادة بقرع الطبول في ساحة تقع خارج الزاوية، فينضم المريدون إليهم حاملين آلاتهم وأزياءهم، ويجتمع الجميع حول الطبول إيذاناً ببداية طقس الدردبة، ثم يتجه الجميع نحو الزاوية، ويواصلون القرع والإنشاد حتى يصلوا إلى ضريح الولي الصالح (زاوية سيدنا بلال)، لكنهم وهُم في طريقهم إلى الضريح يتوقفون عند أبواب الأضرحة الأخرى التي يعبرونها (الزاوية الجزولية، الزاوية الناصرية، الزاوية الغازية، الزاوية القادرية، زاوية سيدي بونو، الزاوية التيجانية، الزاوية العيساوية، الزاوية الحمدوشية، الزاوية الدرقاوية، الزاوية الوزانية..إلخ) حيث ينحني الجميع إجلالاً لذلك لمقامات رقدائها الأولياء الصالحين المبجلين.
يُنظّم الفضاء في حلقة مركزية، ويُضاء المكان إضاءة خافتة
في البداية يشارك بعض العازفين فقط في القرع، ثم تتوسع الحلقة شيئاً فشيئاً، ويأخذ "أولاد بامبارا" دورهم في العزف على الصنوج، إذ يمثلون جانباً من الفرجة الموسيقية الممزوجة بالهزل والحركة والتمثيل، في ما يشبه "المسرح الشعبي"، حيث تظهر شخصيات مثل الرجل الذي يتقمص دور المرأة العاقر التي تسعى بكل الطرق إلى الحمل، أو الطفل المشاكس، أو الرجل المنتفخ البطن الذي يقوم بحركات مضحكة يحاكي بها المرأة الحامل.
بعد هذه المرحلة الكوميدية، يبدأ التحول نحو الطقس الروحي، إذ يدخل الجميع إلى الزاوية، وتبدأ مراحل "الليلة" بما يسميه الكناويون "النقشة"، حيث يستحضرون أرواح الموتى وأسماء الأجداد والقدماء من كناوة، فيتلى الدعاء بالرحمة عليهم. هنا يسود جو من الخشوع، ويردد المريدون الأدعية والأذكار. وبعد بضع دقائق تدخل الليلة الݣناوية مرحلة حاسمة (فتوح الرحبة) يعمل فيها كناوة على توضيب المكان، حيث يتم وضع (طبق) أمام المعلم (عازف الكنبري) تحتوي على مختلف أنواع البخور والأقمشة ذات الألوان المختلفة كل لون منها يرمز إلى "ملك" من (الملوك) وتصحب عملية التحضير أذكار ذات دلالات متعددة، ليتم الدخول مباشرة إلى القسم الأخير والأساسي من الاحتفال الكناوي والمسمى بـ "الملوك"، أو مرحلة الألوان: اللون الأبيض، ويرمز إلى الطهر والصفاء، ويرتبط بالنبي والخلفاء الراشدين والأولياء الصالحين، وعلى رأسهم سيدي عبد القادر الجيلاني الذي يعتبره كناوة قطباً أساساً لا بد من زيارته؛ ثم تأتي بقية الألوان: الأزرق الذي يرمز إلى العوالم المائية؛ ثم الأخضر الذي يرمز إلى الزرع والخصب والبركة (سيدي موسى)؛ والأحمر الذي يرمز إلى الدم والطقس العنيف (سيدي حمو/ لالة عيشة)؛ ثم الأصفر رمز الأوجاع والاختبارات (لالة ميرا)؛ فالأسود الذي يرمز إلى العمق الغامض لارتباطه بروح "سيدي ميمون" بواب الغابة، أي الحارس الذي يفتح الطريق نحو العوالم الأخرى.
فرجة موسيقية ممزوجة بالحركة والتمثيل تشبه "المسرح الشعبي"
خلال تلك العتبات، يصبح الطقس أكثر عمقاً، إذ يدخل بعض المريدين في حالات وجد روحانية (الجذبة) غير قابلة للتفسير، ويتماهون مع الإيقاعات حتى يصلوا إلى نوع من الغياب عن الوعي، إذ ينتقلون رمزياً من الأرض إلى الغابة، ومن الغابة إلى البحر، ومن البحر إلى السماء، بل إن بعضهم يدخل في رقصات غريبة وخطيرة، كما يوضح الباحث في التراث الكناوي المقدم يوسف الصرارفي. ومن ذلك رقصة الثعبان، ورقصة الحيوان، ومن جملة الرقصات العنيفة رقصة المهراز (المهراس)، إذ يعمد المريد إلى ضرب رأسه بيد المهراس ضربات عنيفة من دون أن يشعر بالألم حتى مع حدوث جرح، ورقصة "كومايني بالا"، ويعمد فيها المريد إلى شنق عنقه بمنديل يشد عليه بقوة باكياً منتحباً طيلة الطرح، كما أن هناك رقصة السكين، وهي خطيرة جداً، إذ يوثق المريد يديه بحبل إلى الخلف طالباً من الحاضرين أن يمدوه بسكين، وفي ذرة الرقص، يتسلم السكين التي ليس من المفروض أن يراها بعينيه، ويستمر في ذلك إلى أن يغشى عليه، وتسمى هذه الرقصة "رقصة الحديد".
في أثناء كل هذه الرقصات التي تختلف باختلاف اللون و"الملوك" والإيقاع، يتداخل الجسد مع الصوت، وتُخلق حالة من التلبّس الخطير لدى المريد الراقص أو طالب العلاج.
إنها سردية مسرحية حية لذاكرة العبيد، تكتب بالموسيقى والرقص بوصفهما عنصرين جوهريين للفرجة التي يقترحها علينا الطقس الكناوي في حدوده القصوى، إذ يعبر عن محنة العبيد بالأكفان والدم والسكاكين، وبالجسد السجين الذي يتحرك على وقع الإيقاع، محتفظاً بجرح التاريخ وناطقاً باسم لهوية جريحة تبحث عن جوهرها في جرح لا ينسى.