"عصر الانتقام" لأندريا ريزي.. هل تُنقذ أفكار دانتي وشكسبير العالم؟

13 فبراير 2025
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يبرز الكتاب أهمية المقاومة الفكرية كأداة سياسية لمواجهة الكوارث العالمية، مع تحليل نقدي للتحولات الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية وتأثيرها على الديمقراطيات وحقوق الإنسان.
- يناقش ريزي التحديات التي تواجه النظام العالمي الليبرالي الديمقراطي، مثل القوى الاستبدادية والشعبوية، ويدعو إلى إصلاح شامل يلتزم بالقيم الإنسانية، مع دور قيادي للدول الغربية.
- يتجاهل الكتاب دور العرب في المشهد العالمي، مشيراً إلى أن الانقسامات الداخلية تشكل الخطر الأكبر عليهم وتعيق مشاركتهم الفعالة في القضايا العالمية.

يؤكّد الكاتب والصحافي الإيطالي أندريا ريزي أنَّ المقاومة الفكرية هي شكل من أشكال العمل السياسي. وهذا ما يمارسه فعليّاً في كتاب "عصر الانتقام"، الصادر حديثاً عن "دار أناغراما" الإسبانية، حيث يُحذّرنا بأسلوب مباشر من فكرة التقليل من أهمية الكارثة السياسية والثقافية والاجتماعية التي تهدّد عالمنا. 

بمنهجيّة تأمّلية، يتناول الكاتب التحوّلات الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية في العقود الأخيرة. ومن منظور نقديّ واسع النطاق، لا يكتفي المؤلّف بالأحداث الأخيرة وحدها، بل يتعمّق في أسبابها البنيوية ويتأمّل عواقبها المُحتملة على المدى الطويل. إن مقاومته الفكرية تمتدّ إلى ما هو أبعد من مجرّد التنديد، لتصبح تلك البوصلة المألوفة والضرورية التي ستساعدنا على فهم العمليات المعقّدة التي تُشكّل العالم المعاصر. 

وفقاً لريزي، نحن نعيش في عصر تبرز فيه قوّتان رئيسيّتان تواجهان بدورهما تحدّيات ليست سهلة: من جهة، هناك النظام العالمي الليبرالي الديمقراطي الذي تواجهه قوىً استبدادية مثل الصين وروسيا، حيث تسعيان إلى إعادة تعريف القواعد العالمية على أساس مصالحهما الخاصة. ومن جهة أُخرى، هناك القوى الوطنية الشعبوية الصاعدة في الغرب الذي لم يتمكّن من الاستجابة للوعكة الاقتصادية والثقافية التي تُعاني منها طبقاته العاملة، ما أدّى إلى إضعاف الديمقراطيات من الداخل. 

يدعو إلى مسار إصلاحي يلتزم بنظام القيم الإنسانية

هذه الديناميكيات، كما يرى الكاتب، ليست معزولة، بل تتفاعل وتعزّز بعضها، مولّدة دوامة تشكّل، رويداً رويداً، صدىً مجازياً سيكون بمثابة قوّة طاردة مركزية مُزعزعة للاستقرار والديمقراطيات الحقيقية، إن وجدت، وحقوق الإنسان والتوازن في العالم. وهو ما يقود إلى ما يسمّيه الصحافي "عصر الانتقام". هذه الدوامة المحيطية الهائلة تشتمل على العديد من الظواهر المتزامنة التي تتشابك بشكل غير متوقّع في نظام هوبزي (نسبة للفيلسوف توماس هوبز) متزايد. 

ولكن ليست هذه الدوامة نتيجة صراع القوى أو الحكومات وحدها، بل هي أيضاً نتيجة صراع أفكار غارقة في التناقض، وهذا ما ينتج عنه مستقبلٌ غير مؤكّد أو آمن، حيث يختلط الماضي بالحاضر في ضباب كثيف ينفتح على الفراغ. 

وإلى جانب رغبة الانتقام لدى أولئك الذين سيسعون إلى استعادة ما فقدوه، يصف ريزي التدهّور المتسارع لنظام عالمي مجزَّأ في هذه الدوّامة التي تجرُّ الغرب إلى منعطف جديد، يبدو فيه أن أقطاب القوّة التي بدت ذات يوم مستقرّة ولا مفرّ منها ــ مثل الولايات المتحدّة أو النخب الغربية ــ أصبحت اليوم منغمسة في التيارات نفسها التي تدفع إلى إحياء القوى الاستبدادية القديمة أو الجديدة، مع صعود الصين وروسيا على رأسها، والاستقطاب الداخلي في المجتمعات الديمقراطية. 

ضرورة ملء الفراغ المستقبلي عبر التفكير العقلاني والنقدي

هذه العناصر تتجمّع جميعها في دوّامة متنامية من الصراعات على الهيمنة، فتُعيد بذلك تنشيط الصراعات التاريخية التي ظننا أننا قد تغلّبنا عليها، ولكنها ترسم اليوم عاصفة تهدّد بالتهام كلّ شيء في طريقها. 

لكن ما الحلّ؟ يسأل الصحافي، ويحاول أن يقدّم إجابة قائلاً: "يتطلّب الأمر بذلَ جهود إصلاحية شاملة تأخذ بعين الاعتبار توازنات القوة والديموغرافيا المتغيّرة، بالإضافة إلى الانتهاكات المرتكَبة والمطالب المشروعة. يجب رفض النماذج التي تهدف إلى تهميش حقوق الإنسان والديمقراطية، التي تسعى إلى تقويض مبادئ السيادة والسلامة الإقليمية. ينبغي على الدول الغربية، التي تحتلّ موقع الصدارة، أن تتولّى قيادة هذه الحركة الإصلاحية العميقة، ما يستلزم منها تقديم تنازُلات، قد تشمل تقليص حصّتها من السلطة أو تقديم تضحيات اقتصادية". 

لا شكّ في أن اتّباع هذا المسار الإصلاحي، كما يرى الكاتب، من شأنه أن يعزّز الالتزام بنظام يحافظ على القيم الأساسية الإنسانية، وبذلك التصدي للاتجاهات والتيارات والسياسات التي تؤدّي إلى تجزئة العالم وتحطيم حلم التعدّدية، وهو حلم لا يشترط الحدودَ بين دول الشرق والغرب، والشمال والجنوب. 

غير أنّ محاولة الخلاص من هذا كلّه، كما يوضّح الكاتب، لا ترتبط بالسياسي فقط. فالسياسة ليست الحلّ، وهي لا تُظهر لنا بالضرورة طريقاً مستقيماً أو بلا عقبات، بل طريقاً يُجبرنا على مواجهة ظلال وعيوب النظام، ومواجهة وحوشنا الداخلية: الجشع، والكبرياء، والخوف، والحسد، وانعدام كلّ ما هو إنساني. 

الكتاب، ضمن هذا الإطار، محاولة لملء هذا الفراغ المستقبلي الذي نتّجه إليه، عبر التفكير العقلاني والنقدي. هو فراغ تُولّده رقصة فوضوية في الفضاء العام، تديرها مجموعة من القادة الشعبويّين والاستبداديّين المستحوذين على قطاعات الثقافة والاقتصاد والسياسة في المجتمع ويتلاعبون بها. 

هذه المحاولة الفكرية لا يقوم بها ريزي وحده، بل ترافقه أصوات دانتي وكالفينو وشكسبير وغيرهم من أصوات المفكّرين والمبدعين التي تُغني النّصَّ وتضفي عليه نبضات ليست جديدة علينا، لكنها تُرافقنا أثناء القراءة، وتزعجنا في بعض الأحيان، لأنها تذكّرنا بشيء هامّ: ربط الجغرافيا السياسية بالموضوعات الكبرى المتعلقة بالطبيعة الإنسانية. 

سؤال الوجود العربي

عبر ما يقرب من مئتي صفحة، يتجاهل الكاتب الإيطالي، الذي يكتب بالإسبانية، وجودَ العرب على الخريطة العالمية، كما يتجاهل دورهم في الموضوعات الكبرى المتعلّقة بالطبيعة الإنسانية. قد يكون سبب هذا التجاهل ناتجاً عن نظرةٍ مركزية، كما جرت العادة، ولكنّ سؤال أين هم العرب اليوم، وما دورهم بما يجري من أحداث عالمية، سواء على الخريطة السياسية أو الفكرية أو الإبداعية، أو حتى الحضارية، قد لا يتوقّف عن التردّد في ذهن أي قارئ عربي يقع الكتاب بين يديه.

صار من نافلة القول إن العرب لا يعيشون حالةً من الانهيار فحسب، بل يعيشون، جوهرياً، حالةً من الانحلال: الكوارث، والاجتياحات، والإبادات، وشغف السلطة، والطغيان، وانعدام الحريات، وحقوق الإنسان، والفقر، والتلوث، وقبل هذا كلّه الانقسام إلى فئات وجماعات ومصالح. إن هذا الانقسام، على الرغم من أعراس "التناغم" و"التآلف" و"التضامن" اللفظية، هو السبب الأول في تغييب العرب وغيابهم عن أي مشروع حضاري مؤسّس أو رؤية مستقبلية. وهذا الانقسام ليس نحو الخارج فحسب، بل هو انقسام نحو الداخل أيضاً، أي بين العرب وذواتهم وواقعهم ومصيرهم. ويهذا يكون في العرب أنفسهم الخطر الأكبر على العرب. ومن لا يرى ذاته، من أين لآخر أن يراه! قد يصدق قول الشاعر حين سأل: "هل يحقّ لنا أن نقول: ولدنا؟".

المساهمون