"غيبة مي" لنجوى بركات.. رحلة في مجاهل الشيخوخة

26 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 13:39 (توقيت القدس)
مقطع من لوحة "ما قبل الشيخوخة" للفنّان النمساوي غوستاف كليمت
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تستعرض رواية "غَيبَة مَي" للروائية نجوى بركات موضوع الشيخوخة من منظور وجودي، مركزة على حياة امرأة مسنّة تعيش وحيدة، حيث تصبح استحضارات الماضي حاضراً لها، متمنية حياة ثانية لتخفيف مشقات الأولى.
- تعبر الرواية عن قلق مَي من التغيرات الجسدية المصاحبة للشيخوخة، وتتناول الفروق بين شيخوخة المرأة والرجل، مسلطة الضوء على تأثير المجتمع في تشكيل صورة الشيخوخة، خاصة بالنسبة للمرأة.
- تبرز الرواية ثنائية الحياة والشيخوخة كبديل للموت، مستعرضة تجارب شخصيات مثل إيتل عدنان، وتفتح تساؤلات وجودية حول مصير الإنسان في عالم مظلم.

قلّما تناول الأدب العربي المعاصر موضوع الشيخوخة بصفته موضوعًا وجوديًّا قائمًا بذاته، كما الحال في الغرب، وفي مناطق أخرى من العالم، كاليابان مثلًا، لأنه امتداد لتقاليد فلسفية أدبية عميقة قاربت الموضوع من زوايا مختلفة، وكشفت العلاقة بين الجسد والزمن والموت.

إلى هذا المكان أخذتني رواية "غَيبَة مَي" للروائية نجوى بركات، التي تحكي عن امرأة مسنّة تعيش وحيدة في الطابق التاسع، تطلّ منه على مدينة تتفكّك منذ عقود، وتنظر في مرآة حياتها وذكرياتها كأنّها تروي حكاية شخص آخر، حتى حين تغوص في الفصل الثاني من الرواية في سيرتها الذاتية. هذه السيرة، على غرار بيروت التي تحيا في خراب متواصل - كأنه جزء من تكوينها ومن جروحها التي لا تندمل - ليست سوى خلفيّة للصورة، لا موضوعها الأساسي. الموضوع الأساسي في الرواية يتمثّل في الشيخوخة، هذا الانفجار الصامت والبطيء، الذي يحصل داخل الجسد ولا يأتي من خارجه. يبدأ لحظة الولادة، ويتقدّم حافيًا، بلا ضجيج، كموجة ستبلغ الشاطئ لا محالة. إنها الشيخوخة التي تترك آثارها العميقة في النفس والجسد.
  
ضمن هذه العزلة، هذا الصمت الأجوَف، تشعر مَي بكيانها يتلاشى شيئًا فشيئًا، يختفي إلى أن يصير شبحًا وظلًّا لذاته. يصبح استحضار الماضي هو الحاضر، وهو تَحَسُّر مَي على أنها عاشت قدَرًا ليس قدرها. وحبّذا لو كان ثمّة حياة ثانية يعيشها المرء وتكون هي الحياة الفعليّة، أمّا الحياة الأولى فتكون تمرينًا أوّل لاستيعاب ما يجري، وللتخفيف من المشقّات وخيبات الأمل. هذه الأمنية التي لن تتحقّق، تَسقط أمام الخوف مِن تقهقُر الذاكرة والإصابة بالنسيان الذي يزحف كضباب يبتلع كلّ شيء حتّى الجبال، ومن ضُمور الجسد وألمِ عظامٍ تنوء بأداء أبسط الحركات.

دورة حياة المرأة من الطفولة، والأنوثة النضرة، إلى الشيخوخة

ليست آليَّةُ الحركة ما يبثّ القلق في نفس مَي، بل ما يؤول إليه شكل الأعضاء التي تتشوّه يومًا بعد آخر. تلك اليد التي كانت تصافح، وتومئ، وتُغوي، وتضمّ، وتتذكَّر، هي، كالوجوه، لا تحتاج إلى كلام لتتكلّم. يكفيها أنّها تتنفّس وتلمس وتنبض. فما حالها، إذًا، حين تهرم، ولا تزال تتذكّر في الوقت نفسه؟ هنا، أيضًا، ملمح آخر للشيخوخة، حين يحلّ الأسى محلّ الأحلام. قالت مَي وهي تغسل يديها، بعدما رفعت كيس النفايات وأخرجته إلى شرفة المطبخ: "كم هرمتا! يداي اللتان لم تتبقّعا ببقع ودوائر صغيرة بنِّيَّةٍ تسم أيدي العجائز عامّة، سبقتاني إلى الشيخوخة (...) كأنّهما كانتا تكبران وحيدتَين، دون سائر أعضائي". وتردّد في مكان آخر: "لا أحبّ الاستحمام. نحن العجزة لا نحبّ الاغتسال لأنه يُعرّينا ويُرينا ما آلت إليه أعضاؤنا من خراب". وهذا ما يحيلنا إلى عبارة يختصر فيها فيكتور هوغو هذا التنازع بين الجسد والروح، هذا الانفصال بين الجسد والرغبة: "أوّاه، أيتها الروح البشرية الحزينة التي يمتلكها الجسد". يطالعنا هذا الصراع بقوّة في الأدب الياباني، لا سيّما مع تانيزاكي وكاواباتا. رواية "مذكّرات عجوز أحمق" مثال لهذا الترابط بين الإيروسيّة والموت والخطر المتفاقم بفعل الانجذاب إلى المتعة.

ثنائيّة الحياة والموت، تصبح في رواية نجوى بركات ثنائيّة الحياة والشيخوخة. خراب الجسد أبلغ من الموت. "لو أنّ الفتى حجرٌ"، يقول الشاعر الجاهليّ تميم بن مقبل. فالحجر لا يشيخ ولا يموت، ذلك الموت الذي شبّهه زهير بن أبي سُلمي، الشاعر الجاهليّ الآخر، بالناقة التي لا تُبصر ليلًا، فتَخبط "خبطَ عَشواءَ مَنْ تُصِبْ تُمِـتْهُ ومن تُخطئ يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ". إنها الحتميّة التي يعجز الإنسان عن مواجهتها ويشعر أنه دُمية بين يديها.

تُعبِّر مَي عن اشمئزازها من رؤية الجسد المتحوِّل الذي لم يعد كما كان. تشير إلى الوسخ الذي يغزو مناطق معيّنة منه، وإلى البطن المترهِّل. الجسد الذي كان يومًا مصدر غواية ونشوة وافتتان، وهو زينة عناصر الطبيعة التي بذلت جهدًا خاصًّا في صَوغه ونَحْته. تُعاين مَي هذا كلّه قبل أن تغرق في رمال الضياع التي تبعدها عن نفسها، وتحميها من رؤية سيرورة التحلُّل.

  
تقتضي الإشارة إلى أنّ ثمّة فرقًا بين شيخوخة المرأة وشيخوخة الرجل. فالفرق، هنا، ليس فرقًا عضويًّا فحسب، بل يكتسب طابعًا وجوديًّا ورمزيًّا. فنظرتنا للشيخوخة، رجالًا ونساءً، لا تنحصر في العجز والعزلة، ولا تتشكّل من الزمن وحده، بل من الصورة التي يكوّنها المجتمع حول الشيخوخة، وخصوصًا شيخوخة المرأة، وعلاقة المرأة بشكلها وبالمرايا. ولئن قالت مَي: "ما عدتُ أنظر إلى نفسي في مرايا ما أمنتُها يومًا لأنّ ما تعكسه دائمًا مجرّد وهم"، فإنّ المرأة، في الغالب، تُسِرّ بوجهها إلى تلك الأسطح الملساء وتنتظر منها ألّا تخذلها.

الفنّ التشكيلي جسّد هذا الموضوع منذ النهضة الإيطالية وصولًا إلى العصر الحديث. لوحة غوستاف كليمت، وعنوانها "ثلاثة أعمار للمرأة"، تصوّر دورة حياة المرأة من الطفولة، والأنوثة النضرة، إلى الشيخوخة، تمامًا كما وصفتها مَي في سردها لفصول حياتها، ورصدت مرور الزمن وتحوّلات الجسد، في مشهد يجمع بين الجمال والوَهن. من جانب آخر، تأتي لوحة بيكاسو "بورتريه ذاتي" التي أنجزها في سنواته الأخيرة ضمن سلسلة بورتريهات يظهر فيها وجه الفنّان بعينين مفتوحتين على اتساعهما، في حالة من الذهول والرعب. في هذه الصورة التي تجسّد هاجس الفناء والمواجهة مع النهاية المحتومة، تتلاشى الحدود بين مظهر الإنسان ومظهر الحيوان. كيف لا، ويجمع بينهما مصير واحد؟

ثنائيّة الحياة والموت تتحول إلى ثنائيّة الحياة والشيخوخة

في زيارتي الأخيرة لإيتل عدنان قبل رحيلها، وجدتُها متألّمة، ترفض أن تأخذ الدواء الذي وصفه الطبيب، وحين سألتها عن السبب، أجابت بأنه يسبّب لها الدوار. فقلتُ: سأتّصل بالطبيب وأطلب منه أن يستبدله بدواء آخر. عندئذ ردَّت مباشرةً، ومن دون أن تلتفت إليَّ: "لا يوجد دواء للشيخوخة". تلفّظت إيتل بهذه الكلمات بينما تستثمر شركات التكنولوجيا الكبرى، منذ عقدين من الزمن، مليارات الدولارات في أبحاث تهدف إلى إبطاء الشيخوخة، وإعادة برمجة الخلايا. وهناك من يحلم بإيجاد عشبة الخلود التي ضيَّعها جلجامش منذ ألوف السنين!

تشكّل رواية "غيبة مَي"، العمل الجديد لنجوى بركات، محطّة مهمّة في تجربتها الأدبية، فهي مكتوبة بأسلوب مُحكَم ومتماسك، وبلغة أنيقة وجريئة، تفتح الباب أمام سؤال وجوديّ كبير يتعلّق بمصير الإنسان الفرد، في عالم يمرّ بإحدى لحظاته التاريخية الأشدّ ظلمة، لحظة من شأنها أن تترك أثرًا عميقًا في الوعي البشري على امتداد الزمن.

 

* شاعر لبناني مقيم في باريس

المساهمون