كتّاب خارج ضجيج الأنستغرام

25 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 10:03 (توقيت القدس)
الكاتبة ليلى سليماني في حفل ختام الدورة الـ78 من مهرجان كانّ السينمائي، 2025 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه الكتّاب تحديات في عصر الإعلام الرقمي، حيث يُقاس التأثير بعدد المتابعين، مما يتعارض مع طبيعة الأدب التي تتطلب التروي والتأمل.
- بعض الكتّاب مثل ربيع جابر وليلى سليماني يفضلون الابتعاد عن الأضواء، مما يعكس رغبة في الحفاظ على جوهر الأدب بعيداً عن الضجيج الإعلامي.
- تثير هذه الظاهرة تساؤلات حول العلاقة بين الكاتب والقارئ في العصر الرقمي، حيث يمكن أن تؤدي الحميمية المتخيلة إلى تقليص المسافة التأملية بين القارئ والنص.

لم يعد من السهل أن يختار الكاتب الصمت، أو أن يتراجع خطوة إلى الوراء، وخصوصاً في زمنٍ يُهيمن فيه الحضور الإعلامي، ويُقاس التأثير بعدد المتابعين والظهور المتكرّر. لكن، هل يعني ذلك أن جوهر الأدب هو العزلة؟ ليس بالضرورة. فالكاتب ليس ناسكاً بالمعنى الحرفي، بل شاهدٌ على زمنه، ومشارك في قضاياه، وصاحب رأي قد يكون أقوى من خطاب سياسي أو بيان صحفي.

غير أن الإشكال لا يكمن في أن يكون له رأي، بل في أين وكيف يعبّر عنه. فهل المنصّة الرقمية، بما تفرضه من تفاعل فوري، وتعليق عاجل، وتدوين لا يتوقّف، هي المكان المناسب للكتابة العميقة؟ أم أن هذه الحميمية المفروضة تُفرغ الرأي من معناه، وتختزل الكاتب في ردّات فعله اللحظية؟ هنا يبدأ السؤال، لا الإجابة.

لطالما شُجّع الكُتّاب في العقدين الأخيرين على الانخراط في "العلامة الشخصية" عبر وسائل التواصل، باعتبارها ضرورة معاصرة للترويج والتأثير. يرى البعض أن الحضور الرقمي يمنح الكاتب منصّة للتفاعل المباشر مع جمهوره، ووسيلة لحماية صوته من التهميش الإعلامي. لكن هذه المنصّات، رغم كل ما تتيحه، تفرض إيقاعاً غريباً عن طبع الكتابة: سرعة، اختزال، استعراض. وهي صفات قد تتعارض مع طبيعة الأدب الذي يطلب التروّي، والتأمّل، وإتقان الغياب أحياناً.

النص يعيش بذاته، ولا يحتاج دائماً إلى صورة صاحب

من بين الكُتّاب العرب الذين اختاروا الغياب جزءاً من رؤيتهم للكتابة، يبرز اسم ربيع جابر، الروائي اللبناني الحائز جائزة البوكر. لم يظهر في مقابلات متلفزة، ولا يملك حسابات على المنصّات. حتى صورته الشخصية نادرة. حين سُئل عن ذلك، أجاب: أرفض أن يُسجَّل صوتي متسرّعاً في كل لقاء. الكتاب يحتاج وقفات. الغموض هنا ليس ادّعاءً، بل جزء من عالمه الأدبي، حيث تنمو الشخصيات بعيداً عن ضوء الكاميرا.

مثال آخر من الجيل الجديد هو الروائية ليلى سليماني، التي رغم شهرتها الواسعة، اختارت الانسحاب من إنستغرام. في مقابلة مع مجلة Vogue قالت بوضوح: "أريد أن أقتل ليلى اللطيفة التي تظهر على إنستغرام، تلك التي تخاف ألّا يُحبها الآخرون. يجب أن أقتلها لأكون إنسانةً جيدة، ومواطنةً جيدة، وكاتبةً حقيقية". كلامها يعكس معضلة الكاتب المعاصر: كيف تظلّ ذاتك حقيقية في عالم يتطلّب منك أن تبتسم دائماً، وتُعجب ويُعجب بك؟

حتى في التجربة الغربية، نجد كاتبة مثل أليس مونرو، الحائزة جائزة نوبل، وقد اختارت منذ وقت مبكّر الابتعاد عن الإعلام ورفضت التعرّف إلى الكتّاب من وجوههم. في إحدى مقابلاتها قالت: "لا أريد أن يعرفني الناس بوجهي، بل بقصصي فقط". موقفها يعكس قناعة بأن الأدب ليس أداءً شخصياً، بل تجربة تتجاوز الكاتب.

ومن أميركا اللاتينية، يبرز مثال سيزار آيرا، الروائي الأرجنتيني الذي كتب أكثر من مئة رواية، لكنه نادر الظهور، ولا يُسوّق نفسه أبداً. وصفه النقاد بأنه يعيش في "برج عاجيّ"، ويكتب بتفرّغ شبه يومي بعيداً عن أي ضجيج إعلامي أو رقمي. كتبه تصل إلى القارئ دون أي وساطة، دون مقابلات أو حسابات شخصية، بل عبر النص وحده.

هذه النزعة نحو الغياب لم تبدأ مع الإنترنت، بل سبقتها مواقف شبيهة من كُتّاب كبار، من بينهم نجيب محفوظ، الذي رغم حضوره الأدبي الطاغي، كان في بداياته يرفض الظهور الإعلامي، وقلّما شارك في ندوات أو لقاءات حتى سبعينيات القرن الماضي. عبّر غير مرة عن عدم ارتياحه للكلام عن أعماله، مؤمناً بأن الأدب يجب أن يُقرأ لا أن يُفسَّر. وكان يرى أن "الأديب يجب أن يُعرف من خلال أدبه، لا من خلال كلامه عن أدبه".

لكن هذه الظاهرة تطرح سؤالاً أعمق عن العلاقة بين الكاتب والقارئ في زمن المنصّات. هل تزداد الحميمية حين يعرف القارئ تفاصيل حياة الكاتب اليومية؟ أم تفقد النصوص شيئاً من غموضها وقدرتها على أن تُقرأ كعوالم منفصلة؟ 

تشير دراسات علم النفس الثقافي إلى ما يُعرف بـ"الحميمية المتخيّلة" (parasocial intimacy)، وهي العلاقة التي يبنيها القارئ أو المتابع مع شخصية عامة، دون أن تكون العلاقة متبادلة بالمعنى التقليدي. حين يتابع القارئ الكاتب عبر الصور والمنشورات، يشعر بارتباط أعمق، لكنه في الحقيقة يتفاعل مع صورة منتقاة، لا مع الكاتب الفعلي. وقد يؤدّي هذا التداخل إلى تقليص المسافة التأمّلية الضرورية بين القارئ والنص، حيث يُصبح الكاتب حاضراً في ذهن القارئ بكونه "شخصاً" أكثر منه "صوتاً أدبياً".

هل تزداد الحميمية حين يعرف القارئ تفاصيل حياة الكاتب؟

بالمقابل، حين يغيب الكاتب، لا يبقى أمام القارئ سوى النص. لا يعرف صوته، ولا يراه في القصص اليومية، ولا ينتظر منه تعليقاً في كل قضية. يبدو هذا نوعاً من الترف في عصر الحضور المتواصل، لكنه، في نظر البعض، هو الطريقة الوحيدة لاستعادة جوهر الأدب: أن يُقرأ النص بمعزل عن صاحبه، أن يعيش بذاته.

قد لا يكون الغياب عن المنصّات موقفاً ضد الحداثة، بقدر ما هو سؤال مفتوح عن طبيعة الكتابة نفسها: هل يجب أن تُرفق دائماً بصورة الكاتب وصوته ورأيه السريع؟ أم أن لها الحق بأن تُترك وحدها، لتخلق علاقتها بالقارئ دون وساطات؟ البعض يرى في الحضور الرقمي دعماً ضرورياً للأدب، وآخرون يخشون أن يُفرّغ هذا الحضور الكاتب من خصوصيته، ويحوّله إلى "شخصية عامة" بدلاً من كونه صانع رؤى.

لكن، بين الغياب والحضور، بين الاختفاء الكامل والاستعراض، هناك مساحة رمادية، لا يحدّدها الصمت أو التفاعل فقط، بل يحدّدها سؤال أبعد: هل لا يزال الكاتب قادراً على أن يخلق أثراً أدبياً، حتى حين لا نعرف ما أكله صباحاً أو كيف يعلّق على كل حدث؟ وإذا كان الجواب نعم، فقد لا يحتاج الكاتب إلى أن يكون مرئياً دائماً، بل واضحاً في ما يكتبه. ليس الغياب فضيلة في ذاته، ولا الحضور خطيئة، بل كل شيء يتوقّف على نوع العلاقة التي يريد الكاتب أن يقيمها مع قرّائه: علاقة قائمة على النص، أو على الحياة المحيطة به. وفي النهاية، ليس مطلوباً من الكاتب أن يختفي، بل أن يختار كيف يظهر. والأهم: ألّا يترك الكتابة تغرق في ضجيج لا يشبهها.


* كاتبة وروائية من لبنان

المساهمون