استمع إلى الملخص
- الفلسفة الاقتصادية في الشعر العربي: يناقش الكاتب فلسفة طرفة بن العبد في معلقته حول الحياة والموت والإنفاق، ويعيد تفسير قصة السموأل من منظور اقتصادي.
- التنمية والاقتصاد الإسلامي: في مؤتمر اقتصادي إسلامي عام 1975، تم مناقشة مفهوم "التنمية في الإسلام" وأهمية الندرة، مما أدى إلى تعيين الكاتب في البنك الإسلامي للتنمية.
بعد انقضاء عطلة عيد الفطر كنت أتوقع أن يُغرى كثيرٌ من الكتاب بالعودة الى أحزان المتنبي وهو هارب من بلاط كافور الإخشيدي عبر سيناء والأردن، حين أنشد قصيدته الشهيرة "عيد بأية حال عدت يا عيد"، والمرء في غمرة فزعه مما يراه من انحدار خلقي وهمجية في الكيان الإسرائيلي المحتل بدأ الاستسلام للغضب والنديب والعويل على الضحايا العزل من أطفال ونساء ومدنيين آخرين. ولكنني آثرت اليوم أن أزور بعض المنتجات الأدبية العربية الخالدة لأبرز منها فكراً اقتصادياً ماتعاً.
إذا عدنا إلى ديوان أبي العلاء المعري "اللزوميات" والذي يشكل مخزناً لأفكاره ولا يشكل كنزاً شعرياً، لرأينا أن أبا العلاء قدّم لنا في قطع شعرية مختلفة نظرية في المالية العامة. أولها يقول إن المال لا يُجبى إلا لغاية واضحة، وأن ما جمع من المال لأية غاية يجب أن يوجه للإنفاق عليها. وثانيها أن عدم ضبط الإنفاق ومراقبته كفيل بفتح باب الفساد، وثالثها أن فساد كبار المسؤولين يؤدي إلى إساءة التوزيع للدخل بين الناس.
وجميع هذه الملاحظات دونتها في دراسة ومحاضرة ألقيتها قبل حوالي 30 عاماً في المركز الثقافي الملكي بعمان عاصمة الأردن، وألقيتها للمرة الثانية في جامعة الحسين بمدينة معان جنوب الأردن.
ودعونا نذهب بعد ذلك إلى مقامات بديع الزمان الهمذاني، ذلك الشاب المبدع وسريع اللسان وحاضر البديهة، والذي تحدى أكبر أدباء عصره (القرن العاشر الميلادي) المسمى أبا بكر الخوارزمي وانتصر عليه ما أدى بالخوارزمي إلى الوفاة غماً وكمداً.
والمقامات كما تعلم يرويها عيسى بن هشام على لسان أبي الفتح السكندري الذي كان يعيش في زمان انحدرت فيه الدولة العباسية في عصرها الثاني، وتقطّعت أوصال الدولة إلى دويلات متناحرة، وصارت الشطارة والمكارة والتحايل في طلب العيش أمراً مبرراً.
وفي المقامة البغدادية يروي لنا عيسى بن هشام على لسان أبي الفتح السكندري كيف اصطاد قروياً باع خرافه وامتلأت جعبته بالنقود. فأخذه إلى مطعم يقدم أصنافاً شهية من الأطعمة التي يصفها بجمالية وبيان ساحر. ولما حان أوان دفع الثمن اعتذر أبو الفتح بالخروج، لكي يأتي للقروي بماء بارد ثجاج يفثأ الصّارة ويطفئ الحارة. ولكنه لم يعد، ودفع القروي ثمن الطعام، بينما ينشد أبو الفتح السكندري فرحاً جذلاناً: أعمل لرزقك كل آلة/ ولا تقعدن بأي حالة/ وانهض بكل عظيمة/ فالمرء يعجز لا محالة.
وأما في الفلسفة الاقتصادية، فإنني لا أرى لأحد فلسفة أكثر وضوحاً وصراحة من معلقة طرفة بن عبد البكري التي يقول مطلعها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد/ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
كان هذا الشاب الذي قُتل ولم يبلغ الثلاثين من عمره شاعراً أدبياً، ويمكن تلخيص فلسفته في أبياته التالية: ألا أيهذا اللائمي أن أشهد الوغى/ وأن أحضر اللذات، هل أنت مخلدي/ فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي/ فدعني أبادرها بما ملكت يدي/ أرى قبر نحام بخيل بماله/ كقبر غوي في البطالة مفسد
وهو بهذه الأبيات يناقش أمه وأخته اللتين تعاتبانه على إفراطه في شرب الخمر وضياع الوقت مع النساء البدينات: لماذا تعاتباني؟ هل تستطيعان منع الموت عني؟ وما العبرة في النهاية، فأنا أرى أن قبر نحام "هو ناحوم" واسم لمراب يهودي حريص على المال وشحيح في إنفاقه يموت ويدفن في قبر، مثل قبر شخص مثلي مبذر للمال غير آبه به. وتخيل الآن معي لو أن كل الشباب تصرفوا على طريقة طرفه بين العبد، فماذا سيحصل للإنتاج والاستهلاك والبطالة في مجتمعات كهذه؟
وعلى سيرة المرابين اليهود، الذين كانوا يقرضون المال مقابل فوائد ربوية تصل أضعاف قيمة القرض الأصلية، فإني تذكرت أن إحدى المقدمات لديوان إبراهيم طوقان صاحب قصيدتي "الفدائي" و"الثلاثاء الحمراء" ونشيد "موطني" وغيرها الكثير، تناولت المثل العربي الشهير المذكور في كتاب النيسابوري "مجمع الأمثال"، والذي يقول "أوفى من السموأل"، أي إن العربي الذي يريد أن يضرب المثل في الوفاء، فإنه يستعين بذلك المثل.
ونحن نتذكر أن المثل له قصة تعود إلى الملك الضليل، أو الشاعر امرئ القيس الذي ذهب إلى السموأل وأودع عنده دروعاً وأسلحة حتى يعود من رحلته لطلب العون من قيصر الروم.
وأثناء غياب امرئ القيس، يحاصر أعداؤه الذين قتلوا أباه حصن السموأل ويختطفون ابنه، ويهددونه إن لم يسلمهم الأمانة التي تركها عنده امرؤ القيس فسوف يقتلون ابنه (أي ابن السموأل). ولكن السموأل آثر أن يفي بوعده لامرئ القيس، وأن يقتل ابنه ولا يسلم الأمانة للأعداء. فضُرب به المثل على شدة وفائه.
ولكن في عام 1941، كان إبراهيم طوقان يقدم عبر محطة إذاعة الشرق الأدنى في القدس حديثاً أسبوعياً. وفي أحد هذه الأحاديث، قال إبراهيم طوقان إننا يجب أن نغير هذا المثل الذي هو من إنتاج صهيوني، لكي يقرأ "أخس من السموأل" أو "أغدر من السموأل"، ليكون مثلاً على خسة السموأل ونذالته لا مثالاً على وفائه. وبرر ذلك بالقول إن امرأ القيس لم يترك وديعة لدى السموأل، بل ترك ضمانة لسداد القرض الذي أخذه مقابل أسلحته وسيوفه ودروعه. ولذلك لما اختطف الأعداء ابن السموأل خاف أن يقدم لهم الدروع والسيوف فيخسر قيمة القرض وفوائده، ولذلك فضل أن يضحي بابنه على أن يضحي بماله. ولذلك طلب إبراهيم طوقان بإعادة سرد الحكاية على هذه الأسس. وقامت الدنيا في اليوم الثاني على إبراهيم طوقان، وتدخلت إدارة الإذاعة التي كانت بريطانية، أو من الانتداب وأوقفت حديث إبراهيم طوقان عبر أثيرها.
وأتذكر في عام 1975، عندما عقد مؤتمر اقتصادي إسلامي في فندق الإنتركونتننتال بالقرب من مكة المكرمة، من أجل وضع الأسس للبنك الإسلامي للتنمية، الذي يعتبر قصة نجاح مهمة في عالم التمويل على الطريقة الإسلامية. ويوم افتتاح المؤتمر قدم باحث مصري اقتصادي ورقة يعرّف فيها مفهوم "التنمية في الإسلام". وقد تبين من حديثه أن لغته العربية كانت ركيكة، وأن طريقة لفظه وفهمه قواعد اللغة العربية قد أعوزها الكثير من المعرفة. فثار عليه الشيوخ الحضور في ذلك الوقت لأمرين: الأول لأنه ألحن في قراءة بعض الآيات القرآنية، والثانية لأنه قال إن الاقتصاد يبدأ من مفهوم الندرة، وأن ما هو متاح من الموارد لا يقضي حاجات الناس. ولذلك وجب تنظيم الإنتاج وإدخال مفهوم الأسعار. وكاد المؤتمر يدخل في حالة تصادم، لولا أن الاقتصاديين آثروا في ذلك الوقت الصمت على المقارعة، والتي كانوا سيخسرونها بالقطع.
ولا أدري من أين أتتني الجرأة فطلبت الكلام بحضور مفتي الديار السعودية آنذاك المرحوم الشيخ عبد العزيز بن باز. فلما أعطيت الكلام قلت دعوني أبذل جهدي في شرح مفهوم الندرة، أولاً لا يمكن أن تكون الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين إلا جنة وفرة وليست ندرة، لأن "قطوفها دانية"، ولأن أهل الجنة لا يصيبهم تعب ولا نصب ولا لغوب. وهم يحصلون على كل ما يريدون بمقادير غير مقننة بدون جهد أو تعب أو عمل. فهل الأرض بالمقارنة مع ذلك هي أرض وفرة؟ لا أعتقد ذلك. فالله يقول لنا في القرآن "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه"، ويقول لنا "ولقد خلقنا الإنسان في كبد". ولا يمكن أن نحصل على شيء بدون عمل. والأهم من هذا وذاك أننا لا نأخذ شيئاً بالمجان إلا القليل، أما معظم ما نحصل عليه فيجب أن ندفع الثمن مقابلاً له.
والله سبحانه وتعالى رحمن رحيم، أي إنه سواء أعطى رحمته أو منعها فهو في كل الحالتين رحيم، وماذا لو أفاق الناس ليلة القدر واستجاب الله دعواتهم، وأعطى كل واحد دعاه كل ما اشتهى وما طلب، فهل تتخيلون الفوضى التي ستحصل في اليوم التالي؟ من الذي سيذهب للعمل؟ ومن سيقوم بأعمال الصيانة والإدامة؟ هذه هي الندرة النسبية. وكل شيء له كلفة. حتى المال الذي نقدمه في المستقبل قرضاً أو مساهمة من البنك الإسلامي له سعر وكلفة، ويتطلب سداده تخطيطاً واستثماراً.
فأثنى الشيخ بن باز على ما قلته، وقال لهم عينوه في البنك، ورغم أنني كنت قد تخرجت ذلك العام من الولايات المتحدة بشهادة الدكتوراه في الاقتصاد، فإنهم وافقوا على منحي أعلى درجة في سلم الوظائف في البنك استثناء. ولكن البنك المركزي الذي درست على نفقته أصرّ على أن أوفي بالالتزام بالخدمة مقابل البعثة. وقد كان ما أراده البنك المركزي الأردني. وأذكر أن الرئيس الأول للبنك الإسلامي، الدكتور أحمد محمد علي المدني، كان الرجل المناسب في المكان المناسب.
ولي مع السادة الأفاضل شيوخنا الكبار حوارات محدودة متعددة. وأذكر أنني التقيت مرة بالشيخ المرحوم محمد متولي الشعراوي، وسألته أن يفسر لي كلمة "فساد"، وأخذ الرجل يفسرها، ولكن بطريقة مستعجلة جعلتني أشعر بأنه كان ينظر إليّ على أنني مبتدئ. فقلت له مقاطعاً سعيه للتبسيط: "ولكن تفسير المنار عرّف الفساد بأنه كل ما يخرج الأشياء عن الطبيعة التي خلقها بها الله"، فنظر إليّ قائلاً أعطني مثالاً، فأشرت إلى سورة الروم الآية 41 التي تقول "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون"، فأطرق وقال سأفكر فيها وأعود إليك. ومع الأسف، فإننا لم نلتقِ بعد ذلك أبداً.