استمع إلى الملخص
- العزلة الدولية والمخاطر الاقتصادية: قد يؤدي القرار إلى عزلة إسرائيل دولياً، مما يهدد علاقاتها الاقتصادية ويؤثر على الاستثمارات والإمدادات العسكرية، مشابهاً لتجربة جنوب أفريقيا.
- تغيرات في الدعم الدولي: بدأت دول مثل كندا وبريطانيا في اتخاذ مواقف أكثر تشدداً، مع تزايد التعاطف مع الفلسطينيين في الولايات المتحدة، مما قد يؤثر على الدعم لإسرائيل.
شكّل طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير أمنه السابق يوآف غالانت، يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني، سابقة في تاريخ الدولة العبرية ونقطة تحول في علاقات إسرائيل الدولية وفي نفوذ الدول الكبرى وتأثيرها في المؤسسات الدولية.
ولأول مرة في تاريخ المحكمة التي تأسست سنة 2002 كمحكمة للأفراد الفارين من العدالة والمتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، توجه المحكمة اتهامات إلى زعماء سياسيين موالين للحكومات الغربية والولايات المتحدة بوزن رئيس وزراء إسرائيل. وبالتالي، سيكون للقرار تداعيات على مستقبل إسرائيل واستقرارها المرتبط بالدعم الغربي، وكذا على اقتصادها وصادراتها الخارجية وسمعتها بين المستثمرين في الأسواق الدولية وحجم الأموال والاستثمارات الأجنبية المتدفقة على دولة الاحتلال، وربما يؤثر ذلك على تصنيف دولة الاحتلال الائتماني وكلفة الاستدانة الخارجية.
لا تنطوي تداعيات قرار اتهام نتنياهو وغالانت على إمكانية التوقيف والاعتقال. وفرص اعتقالهما ضعيفة، وقد تكون منعدمة خاصة في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. وسبق أن أصدرت محكمة بريطانية في سنة 2009 قرارا بتوقيف وزيرة الخارجية الإسرائيلية وعضو مجلس الحرب، تسيبي ليفني، إثر اتهامها بارتكاب جرائم إبادة في الحرب على غزة في سنة 2008. ونظرا لخطورة القرار على هيبة الدولة، مارست إسرائيل ضغوطا كبيرة على الحكومة لتعديل القانون البريطاني الذي يتيح استصدار أوامر اعتقال ضد كبار الساسة والعسكريين الإسرائيليين. واستجابت لندن لهذه الضغوط في 2011، وأدخلت تعديلا على القانون، يمنع استصدار أوامر توقيف إلا بموافقة النائب العام البريطاني.
لكن مخاطر قرار "الجنائية" هي تحول إسرائيل إلى دولة منبوذة دوليا، مثل حكومة بريتوريا العنصرية في جنوب أفريقيا، وقد تواجه أزمات في العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارات الأجنبية والإمداد العسكري والحصول على الأسلحة والذخائر. وهي تعاني بالفعل من عجز حاد في هذه الأسلحة، وألقى نتنياهو باللوم على إدارة بايدن بتأخير تلك الأسلحة.
وبعد صدور طلب توقيف نتنياهو، كشف المحلل الإسرائيلي بصحيفة هآرتس عاموس هارئيل عن تحقيقات جنائية تجري ضد جنود وقادة للجيش الإسرائيلي في العديد من البلدان، وحذر قادة إسرائيل من أن قرار "الجنائية الدولية" يعطي إمكانية كبيرة هذه المرة لاعتقال نتنياهو وغالانت في أكثر من 120 دولة أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية حال وصلا إليها، والأخطر أنه يخلق فرصة لحظر الأسلحة لإسرائيل من قبل دول غربية إضافية.
إسرائيل منبوذة دولياً
طلب توقيف نتنياهو من قبل المحكمة الجنائية سيفرض عزلة دولية وقيودا مستقبلية على علاقات تلك الدول السياسية والاقتصادية بدولة الكيان، وستزداد المطالب الشعبية بمقاطعتها وحظر تصدير الأسلحة لها. ويشهد التاريخ أن سقوط نظام الفصل العنصري، الأبارتهايد، في جنوب أفريقيا كان نتيجة فرض الدول عقوبات اقتصادية، على حكومة بريتوريا ومنع تصدير الأسلحة إليها، وعزلها سياسيا ثم طردها من المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ودورة الألعاب الأولمبية، وفي النهاية سقط النظام بكامله في سنة 1990. وهذا المصير تخشاه إسرائيل، ويتوقعه مفكرون في دولة الكيان وخارجها. وبعد طلب خان توقيف نتنياهو وغالانت، قال الخبير في القانون الدولي البروفيسور كوهين شالوم إن إسرائيل تحولت إلى "دولة جرباء" تخشى الدول إقامة علاقات معها، مع احتمال تأثير القرار على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل".
وهو ما أكدته صحيفة هآرتس الإسرائيلية قبل شهور بأن إسرائيل أصبحت تعاني من عزلة دولية. وفي المقال الذي نُشر في شهر مايو/أيار الماضي بعنوان "إسرائيل أصبحت بالفعل منبوذة دولياً"، قالت الصحيفة إن الدولة تواجه عزلة دولية في التجارة والأوساط الأكاديمية والدبلوماسية. وعبر جوناثان فريدلاند، وهو مفكر وكاتب عمود في صحيفة الغارديان ومقدم برامج وفائز بجائزة أورويل للصحافة، في مقال بعنوان "بعد ستة أشهر... الحرب في غزة تجعل إسرائيل دولة منبوذة"، عن حالة العزلة التي تعيشها إسرائيل بقوله إن إسرائيل تقف اليوم مثل "الجذام" بين الأمم، ولم تكن معزولة في يوم من الأيام إلى هذا الحد قط.
مصير بريتوريا العنصري
من المؤشرات التي تدل على تدحرج إسرائيل في عزلة تدريجية قد تلاقي بسببها مصير نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أن رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر أعلن بعد قرار "الجنائية" بحق نتنياهو أن بلاده قد تعتقل نتنياهو وغالانت إذا زارا بريطانيا. والأخطر أن حكومة حزب العمال ستتخذ إجراءات أكثر تشددا تجاه تصدير الأسلحة لإسرائيل بعد تعليقها 30 رخصة لتصدير تلك الأسلحة من أصل 300. كذلك، إعلان رئيس الحكومة الكندية جاستن ترودو أن السلطات الكندية ستعتقل نتنياهو إذا ما وطئت قدماه كندا، وذلك بموجب التفويض الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية.
كانت كندا رديف الولايات المتحدة في دعمها الأعمى لإسرائيل، ووقعت معها اتفاقية تجارة حرة في سنة 2018، وألغت التعريفة الجمركية على السلع لدعم التجارة وتقوية الاقتصاد الإسرائيلي بنحو ملياري دولار سنويا، وقدمت لها دعما سياسيا في الأمم المتحدة ومنعت إدانتها في مجلس الأمن، وعسكريا بالأسلحة بعد هجوم حماس. ولكن بفعل المظاهرات الشعبية المعادية لإسرائيل، اتخذ البرلمان الكندي قراراً بحظر تزويد الجيش الإسرائيلي بأية أسلحة. حتى أن وزيرة الخارجية، ميلاني جولي، والتي كانت عائدة من زيارة دعم لإسرائيل، قالت إن الاقتراح الأصلي للقرار كان يطلب تعليق مبيعات الأسلحة لإسرائيل، إلا أنه تم تغيير ذلك إلى الحظر التام.
تعليق صادرات الأسلحة ومكوناتها لإسرائيل سوف يهدد استثمارات الجيش الإسرائيلي في صناعة الأسلحة، وهي من مفاخر جيش الاحتلال، وتمثل 25% من الصادرات الإسرائيلية. وتستحوذ إسرائيل على نسبة 3% من صادرات الأسلحة العالمية، وقفزت صادرات الأسلحة الإسرائيلية إلى 12.5 مليار دولار في 2022، وهي ثامن أكبر مصدر للأسلحة في العالم منذ سنة 2014 ولمدة أربع سنوات. وفي سابقة نادرة، خالفت كندا ثم بريطانيا قرار الولايات المتحدة، واستأنفت الدولتان تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا، لتصبح أول دول تستأنف التمويل من بين 16 دولة علقت تمويلها للوكالة بطلب من إسرائيل.
والاتحاد الأوروبي أيضا، الذي يؤمن 30% من الأسلحة لإسرائيل، خالف الولايات المتحدة الرافضة لقرار الجنائية الدولية، وقال ممثله للشؤون الخارجية جوزيب بوريل إن قرارات المحكمة "ليست سياسية" ويجب احترامها. وفرنسا وهولندا أعربتا عن التزامهما بالقوانين الدولية، وأكدت النرويج دعمها للمحكمة الجنائية الدولية كهيئة قضائية مستقلة، وأيرلندا وصفت الأوامر بأنها "خطوة مهمة" نحو تحقيق العدالة، وكلها مواقف تؤكد حصول تحول دولي في السياسات الداعمة لإسرائيل.
مستقبل الدعم الأميركي
الولايات المتحدة أكبر داعم لإسرائيل في العالم، وبعد الأسبوع الأول من العدوان، صوّت مجلس الشيوخ الأميركي لمصلحة قرار قدمه الرئيس جو بايدن يقضي بتخصيص 14.1 مليار دولار مساعدات عسكرية عاجلة لإسرائيل. وقدمت الولايات المتحدة في هذه الحرب 599 صفقة مبيعات عسكرية لإسرائيل بقيمة 23.8 مليار دولار، تشمل الطائرات المقاتلة من طراز إف 35، وأطنانًا من القنابل الذكية والغبية، وفق بيانات وزارة الدفاع الأميركي.
في المقابل، لم تتوقف المظاهرات في الجامعات الأميركية والشوارع وأمام البيت الأبيض منذ بداية العدوان على غزة قبل 13 شهرا، لوقف إطلاق النار ومنع تصدير الأسلحة لإسرائيل. وأظهر استطلاع مركز بيو الأميركي للأبحاث أن 61% من شباب الحزب الديمقراطي متعاطفون مع الفلسطينيين بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، مقارنة بـ42% فقط في سنة 2016. يقول أصحاب الفكر في إسرائيل، إن هؤلاء الشباب هم من سيديرون دفة السياسة والاقتصاد في الولايات المتحدة بعد أقل من عشرين سنة، وسيقودون تحول الدعم الأميركي الأعمى بعيدا عن إسرائيل.
وكشفت الكاتبة الإسرائيلية إفرات رايتن في مقال لها بصحيفة هآرتس أن إسرائيل خسرت الشباب الأميركيين الذين أصبحوا يربطون بين الصهيونية والقمع والإمبريالية لدرجة إنكار حق إسرائيل في الوجود، وأن هؤلاء الشباب في الجامعات يرفعون شعارات "فلسطين حرة من النهر إلى البحر". وعبر 50% منهم عن دعمهم للفلسطينيين، ومعظمهم يعترضون على سياسة بايدن تجاه إسرائيل، ويمكن رؤية هؤلاء الشباب في المستقبل بمجلس الشيوخ والمحاكم والقيادة الاقتصادية والبيت الأبيض، وإذا لم تتغير القيادة في إسرائيل فقد تكون إدارة بايدن آخر إدارة ديمقراطية تدعم إسرائيل.
أما طلب مدعي عام المحكمة الجنائية توقيف نتنياهو، فسيعطي بلا شك دعما أخلاقيا جديدا للشباب الأميركي في مطالبه بوقف إطلاق النار ومقاطعة سلع ومنتجات دولة الاحتلال وسحب الاستثمارات ومنع تصدير الأسلحة لإسرائيل.