حيرة الفيدرالي الأميركي | الأسواق تراهن على خفض الفائدة... والمفاجآت متوقعة
استمع إلى الملخص
- أظهرت البيانات الاقتصادية ارتفاعاً في التضخم الأساسي وتباطؤاً في سوق العمل، مما يزيد من صعوبة اتخاذ قرار واضح بشأن الفائدة.
- قرار الفيدرالي له تأثيرات عالمية كبيرة، حيث يؤثر على قوة الدولار وأسعار السلع، ويتابعه صناع السياسة في أوروبا وآسيا والخليج عن كثب.
تترقب البنوك المركزية الكبرى وأسواق المال والمعدن العالمية قرار مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" بشأن اتجاهات أسعار الفائدة، حيث إن القرار يعد مؤشرا لصناع السياسة النقدية حول العالم. كما يعد مؤشرا على مدى استقلالية البنك الفيدرالي مع الضغوط الشديدة التي يمارسها عليه الرئيس دونالد ترامب لدفعه نحو خفض الفائدة. ومن المقرر أن تختتم لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية التابعة للبنك المركزي الأميركي مساء اليوم الأربعاء اجتماعها الممتد ليومين، في واحدة من أكثر اللحظات حساسية منذ بدء دورة رفع الفائدة في عام 2022، حيث سيعلن القرار عند الساعة التاسعة مساء بتوقيت الدوحة، يليه المؤتمر الصحافي لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول عند الساعة التاسعة والنصف.
وتترقب الأسواق العالمية، من وول ستريت إلى آسيا والخليج، البيان وما يحمله من إشارات، خصوصا أن الاجتماع يأتي وسط معطيات اقتصادية متناقضة، ما بين تضخم أميركي متماسك يرفض النزول إلى مستوى 2% المستهدف، وسوق عمل يظهر علامات ضعف متراكمة. وتضع هذه البيانات البنك المركزي الأميركي أمام معضلة حقيقية: هل يخفض الفائدة كما تتوقع الأسواق، أم يبقي عليها أو حتى يرفعها قليلا استنادا إلى القواعد الحسابية للسياسة النقدية؟
بيانات متناقضة
وبحسب بيانات وزارة العمل الأميركية ارتفع مؤشر أسعار المستهلك في أغسطس/آب بنسبة 2.9% على أساس سنوي، صعودا من 2.7% في يوليو/تموز، وعائدا إلى أعلى مستوى منذ بداية 2025. أما التضخم الأساسي (الذي يستبعد الغذاء والطاقة) فقد ارتفع 3.1%، وهو ما جاء متوافقا مع توقعات المحللين. وتوزعت الزيادات على سلع استهلاكية أساسية، من السيارات والملابس إلى الغذاء والإيجارات، ما يعكس أن الضغوط السعرية لم تعد حكرا على قطاعات معينة.
وأظهرت بيانات شهر أغسطس/آب قفزة بنسبة 0.6% في أسعار المواد الغذائية على أساس شهري بعد تراجع طفيف في يوليو/تموز، بينما ارتفعت أسعار القهوة 21% ولحوم الأبقار 17% والتفاح 10% على أساس سنوي. ورغم أن محللين يشيرون إلى أن تأثير الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب في وقت سابق من العام يجري تمريره تدريجيا إلى المستهلكين، فإن النتيجة النهائية تبقى ارتفاعا ملموسا في تكلفة المعيشة. ويتمثل الخطر الأكبر، بحسب خبراء في ستانفورد ومعاهد أبحاث أخرى، في أن هذه الزيادات وإن جاءت تدريجية فإنها قد تغذي مفاوضات الأجور خلال الأشهر المقبلة وتؤدي إلى حلقة تضخمية جديدة إذا لم يتم احتواؤها مبكرا.
في المقابل، أرسلت بيانات سوق العمل إشارات تباطؤ واضحة، بإضافة نحو 22 ألف وظيفة فقط، وهو عدد أقل بكثير من التوقعات المتوسطة. فقد أظهرت تقارير وزارة العمل الأميركية ارتفاع معدل البطالة إلى 4.3% وهو الأعلى منذ أكتوبر 2021، مع تراجع نمو الوظائف خلال الصيف بشكل حاد. كما قفزت طلبات إعانات البطالة الجديدة إلى أعلى مستوى منذ ثلاث سنوات، ما يثير مخاوف من أن الاقتصاد ينتقل من مرحلة "التوظيف البطيء والتسريح البطيء" إلى مرحلة فقدان الوظائف بوتيرة أكبر. وترافق ذلك مع مراجعة واسعة لبيانات التوظيف السابقة، كشفت أن الاقتصاد أضاف عدد وظائف أقل بنحو 911 ألف وظيفة مما كان يعتقده بين مارس/آذار 2024 ومارس/آذار 2025، في إشارة إلى أن سوق العمل كان أضعف بالفعل على مدى أشهر طويلة.
قاعدة تايلور ورهانات السوق
هذا التناقض بين التضخم المتماسك فوق المستهدف وسوق العمل المتباطئ يجعل معضلة البنك الفيدرالي أكثر تعقيدا. ووفقا لحسابات الخبير الاقتصادي جاي كيديا، باستخدام قاعدة تايلور (وهي المعادلة الشهيرة التي تحدد المستوى الأمثل للفائدة استنادا إلى فجوة التضخم وفجوة البطالة) فإن المستوى الأمثل للفائدة حاليا يبلغ 4.52%، وهو ما يعني أن النطاق الحالي (4.25 - 4.50%) متوافق تقريبا مع القاعدة، وربما يتطلب رفعا طفيفا لا خفضا. ويتعارض هذا التقييم مع رهانات الأسواق التي تتوقع خفضا بمقدار 25 نقطة أساس في ختام اجتماع اليوم الأربعاء. ويؤكد كيديا أن جوهر المشكلة ليس في القرار نفسه، بل في غياب إطار قواعدي ملزم للفيدرالي، إذ إن استمرار الاعتماد على تقديرات ذاتية وتوجيه مسبق للأسواق يجعل قرارات السياسة النقدية عرضة للتقلبات المفاجئة. ويرى أن الحل يكمن في التزام رسمي باتباع قاعدة حسابية مثل تايلور بحيث يتمكن المستثمرون من توقع القرارات بدقة استنادا إلى البيانات، ما يقلل عنصر المفاجأة ويعزز استقرار التوقعات.
وإحدى المعضلات الكبرى هي أن الفيدرالي سبق أن قدم إشارات واضحة عبر التوجيه المستقبلي تميل إلى خفض الفائدة دعما لسوق العمل، ما دفع المستثمرين لتسعير هذا السيناريو في الأسواق. وإذا قرر اليوم الأربعاء الإبقاء على الفائدة دون تغيير استنادا إلى بيانات التضخم، فقد يواجه ردة فعل عنيفة من الأسواق وخسارة مؤقتة للمصداقية التي بناها عبر رسائله السابقة. أما إذا خفض الفائدة رغم البيانات التضخمية، فقد يتهم بتغليب اعتبارات السوق على الهدف الأساسي وهو استقرار الأسعار. ويفسر هذا التوازن الدقيق لماذا ارتفعت مؤشرات وول ستريت إلى مستويات قياسية الأسبوع الماضي، حيث إن المستثمرين لا يراهنون فقط على خفض اليوم، بل على سلسلة من التخفيضات في الاجتماعات القادمة.
الجميع يترقب
الأهمية العالمية لقرار الفيدرالي اليوم الأربعاء لا تقل عن أثره الداخلي. فخفض الفائدة الأميركية يعني عادة تراجع قوة الدولار وارتفاع أسعار السلع الأولية مثل الذهب والنفط، كما يخفف الضغوط على عملات الأسواق الناشئة ويعيد تدفقات رؤوس الأموال إليها. أما تثبيت الفائدة أو رفعها فسيحافظ على جاذبية الدولار ويضغط على الأصول الخطرة. لهذا يتابع صناع السياسة في أوروبا وآسيا، إضافة إلى البنوك المركزية في الخليج، ما سيصدر الليلة عن الفيدرالي لأنه سيؤثر مباشرة على سياساتهم النقدية ومسارات أسعار الصرف المحلية.
وتتجه الأنظار كذلك إلى لغة البيان الرسمي: هل سيؤكد أن التضخم ما زال مصدر قلق وأن أي خفض إضافي سيعتمد على بيانات مستقبلية، أم سيعطي إشارة واضحة إلى أن دورة التيسير بدأت بالفعل؟ وسيحمل خطاب جيروم باول بعد نصف ساعة من إعلان القرار مؤشرات حاسمة على الاتجاه المستقبلي، لا سيما إن أشار إلى تقديرات التضخم المفضلة لدى الفيدرالي (مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي) المتوقع صدوره لاحقا هذا الشهر. وإذا جاء هذا المؤشر أكثر اعتدالا من مؤشر أسعار المستهلك، فقد يبرر خفضا تدريجيا للفائدة في الاجتماعات المقبلة دون المخاطرة بفقد السيطرة على التضخم.
ويتفق معظم المحللين على أن قرار الفيدرالي الليلة - سواء خفض الفائدة أو تثبيتها - سيترجم فورا في حركة الأسواق العالمية صباح غد الخميس. فإذا جاء القرار متوافقا مع التوقعات بخفض 25 نقطة أساس، يرجح أن تشهد مؤشرات الأسهم الأميركية والعالمية موجة صعود جديدة، مدعومة بتراجع عوائد السندات الحكومية الأميركية وانخفاض كلفة الاقتراض. وفي المقابل، سيضغط هذا السيناريو على الدولار، ما يمنح الذهب والنفط دفعة صعودية جديدة ويزيد من جاذبية الأصول في الأسواق الناشئة. أما إذا اختار الفيدرالي تثبيت الفائدة أو لمّح إلى احتمال رفعها لاحقا استنادا إلى بيانات التضخم، فقد تهبط مؤشرات الأسهم بشكل حاد كردة فعل فورية، وترتفع عوائد السندات، بينما يكتسب الدولار قوة إضافية تدفع عملات الأسواق الناشئة إلى التراجع وتزيد كلفة التمويل العالمي.