يقوم الاقتصاد الإسرائيلي على نظرية "دولة الرفاه" التي تؤمن حاجيات الإسرائيليين وتوفر لهم الخدمات والمساعدات وفرص العمل وكل ما يريدونه لكي لا يهاجروا، أو ينقلوا استثماراتهم إلى خارج إسرائيل. هذا التوجه يتعرض للاهتزاز منذ ما يعرف بالانقلاب القضائي ومن ثم عملية طوفان الأقصى، نتيجة تراجع غالبية المؤشرات التي توحي بأنّ الاقتصاد هناك قوي وقادر على توفير الرفاه. وهذا ليس تفصيلاً.
وفقًا لبيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، انخفض نمو نصيب الفرد في إسرائيل في الربع الثاني من عام 2024 بنسبة 0.9% على أساس سنوي، وهو تعديل هبوطي حاد مقارنة بالتقديرات السابقة للمكتب التي تشير إلى نسبة لا تتجاوز 0.4%. ويعني انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أن الإسرائيليين يصبحون أكثر فقراً.
وحتى الأرقام المتفائلة بعيدة كل البعد عن طمأنة الإسرائيليين إلى مستوى رفاههم خلال الحرب وبعدها. ففي أغسطس/ آب مثلاً، بلغت معدلات البطالة 2.6%، وهي أدنى مستوياتها تاريخياً، إلا أن سبب التراجع هذا لا يعود إلى ارتفاع حجم الإنتاج والتشغيل، ولا يرتبط مطلقاً بنمو الاقتصاد أو جذب المزيد من الاستثمارات، لا بل العكس، إذ إنه نتيجة مباشرة لنقص العمال الكبير نتيجة انتقال عدد كبير من الموظفين إلى جيش الاحتياط، ونقص العمالة الفلسطينية في قطاعات حيوية، أبرزها العقارات.
وفي تفاصيل الأرقام المتعلقة بالناتج المحلي، يظهر رقم شديد الدلالة، فقد ارتفع الاستهلاك الخاص بنسبة 2.7% على أساس ربع سنوي، لكن الزيادة الحادة أتت في الإنفاق على المنتجات المستدامة للفرد في مقابل انخفاض حاد في الإنفاق على المنتجات شبه المستدامة، مثل الملابس والأحذية والمنسوجات المنزلية وأدوات العمل والأجهزة الكهربائية الصغيرة.
ويضاف إلى هذه المؤشرات ارتفاع كبير في التضخم بما يفوق توقعات بنك إسرائيل، ما يعني تراجع القدرة الشرائية وتصاعد الأسعار. فقد قفز التضخم إلى معدل سنوي قدره 3.6% في أغسطس/ آب بشكل مفاجئ، وهو بعيد عن توقعات الاقتصاديين بأن يصل المؤشر بالمعدل السنوي إلى 3.2%.
وفي ظل ارتفاع أسعار الشقق من المتوقع أن يستمر تصاعد سعر تذاكر الطيران حتى نهاية العام، وارتفاع كلفة البناء والإنتاج الزراعي بسبب نقص العمال وزيادة الضرائب، ما يشير إلى اتجاه صعودي أكيد ومتعاظم للأزمات حتى نهاية العام الحالي.
وبالنتيجة، ترتفع معدلات الهجرة إلى مستويات حادة أيضاً، وهذا ما يسبب قلقاً كبيراً لراسمي السياسات في إسرائيل. ففي عام 2023، غادر إسرائيل 55300 شخص، وتضاعف رصيد الهجرة السلبي؛ وملف أولئك الذين يغادرون مثير للقلق بشكل خاص هناك، كونهم شباباً حاصلين على تعليم عالٍ ومن المنطقة الوسطى؛ يستمر هذا الاتجاه حتى عام 2024 مع الحرب، ففي الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى يوليو/ تموز 2024، كانت هناك قفزة بنسبة 58% في عدد المغادرين من إسرائيل مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي.
وقد بدأت موجة الهجرة من إسرائيل في وقت مبكر من عام ما يعرف بعام انقلاب 2023، عندما كان المهاجرون شباباً ومتعلمين، وكانت نسبة الزيادة 50% في عدد المتقدمين للهجرة، علماً أن متوسط عدد المهاجرين كان يبلغ حوالي 13.2 ألفًا في الأعوام 2013-2022. وغالبية المهاجرين ليسوا عرباً، وإنما يهود بنسبة تصل إلى 61.3%، ومعظم المهاجرين ولدوا في الخارج (58.8%)، الغالبية العظمى (80.3%)، ولدوا في أوروبا.
والمهاجرون ليسوا من الذين يعيشون على حدود غزة أو لبنان، لا بل إن أكثر من 54% منهم عاشوا في المنطقة الوسطى ومنطقة تل أبيب معًا. وما يخيف السياسيين ومتتبعي المؤشرات هناك هو أن مستوى تعليم المهاجرين هو أعلى من مستوى تعليم عامة السكان في إسرائيل.
ومن بين المهاجرين الذين تراوح أعمارهم بين 20 و90 عاما، حصل 53.7% منهم على 13 سنة دراسية أو أكثر، مقارنة بـ44.2% بين إجمالي السكان في هذه الأعمار. لكن الفرق بين نسبة المهاجرين الذين حصلوا على 16 سنة من الدراسة وما فوق ملحوظ بشكل خاص، حيث ترتفع النسبة إلى أكثر من ربع إجمالي المهاجرين (26.4%)، مقارنة بمعدلهم بين عامة السكان، وهو 19.0%. وبعبارة أخرى، هناك زيادة في الوزن بين المهاجرين الذين يساهمون بأكبر قدر في الاقتصاد من حيث الإنتاجية والناتج المحلي الإجمالي والضرائب.
إذ إن الرفاه يأتي من الإنفاق، وإن كان النمو يتراجع والديون تتزايد ومعها العجز والتضخم، فهذا يعني أنّ الخدمات كما التقديمات سيقل نوعها وحجمها، وردم العجز في المقابل سيحتاج إلى زيادة الضرائب.
ويوم الجمعة الماضي، خفّضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لإسرائيل، مشيرة إلى المخاطر الجيوسياسية المتزايدة مع تفاقم النزاع مع حزب الله وتراجع احتمالات وقف إطلاق النار في غزة.
وتراجع تصنيف إسرائيل درجتين من "A2" إلى "Baa1"، وأشارت موديز إلى أن المخاطر لها "تداعيات مادية سلبية على الجدارة الائتمانية لإسرائيل على المدى القريب والطويل".
وتتوقع وكالة موديز أن ترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى 70% مقارنة مع 50% المتوقعة بدون الحرب. وذلك يعني أن كلفة استدانة إسرائيل من الأسواق ستكون مرتفعة جداً، فيما يتصاعد الدين المحلي أساساً، ما يزيد من الأعباء على الأفراد وأسرهم بشكل مباشر وغير مباشر. إذ إنّ حصة الفرد من الدين العام ستتزايد، فيما سترتفع كلفة القروض القديمة كما الجديدة، والتأثير سيكون مضاعفاً على الأسر، إذ إنّ ارتفاع كلفة الاقتراض على المؤسسات سيؤدي أيضاً إلى ارتفاع الأسعار على الأفراد.
كما أن خفض التصنيف يؤثر على القرار الاستثماري في إسرائيل، ما يعني تراجعاً إضافياً في المشاريع وتقليلاً من فرص العمل المتوقعة، فيما تستمر المؤسسات الأجنبية وكذلك الإسرائيلية في المغادرة إلى بلدان أكثر أمناً.
وفقاً للبيانات التي جمعها مودي شافيرر، كبير استراتيجيي الأسواق المالية في بنك هبوعليم، تشير التقديرات إلى أنه منذ شهر يناير ارتفعت أقساط الديون الإسرائيلية بنسبة 1%، ما يزيد التزامات الأفراد بقيمة تصل إلى 1300 شيكل سنوياً، وفي حال العائلة التي تتألف من خمسة أفراد فإنّ مدخولها السنوي سيكون أقل بقيمة 6500 شيكل، وهذا فقط من دون الحديث عن الإنفاق الإضافي الذي يترتب عن الحرب وإعادة الإعمار وغيرها.
والأمر لا يتوقف هنا، إذ إنّ عدداً من الاقتصاديين الإسرائيليين يبدون قلقاً من الاختناقات المرورية، والبنية التحتية الرديئة، والحياة غير السارة وتراجع المداخيل، وهبوط القدرة الشرائية، وتراجع حجم الاستثمارات، خاصة في التكنولوجيا، ما يعني أنّ مفهوم الرفاه تتقلص أساساته، وهذا ما سيصبح محسوساً أكثر خلال السنوات المقبلة وفق العديد من الخبراء هناك.