استمع إلى الملخص
- منذ عام 2014، سيطر "الثنائي الشيعي" على الوزارة، مما زاد من تعقيد الوضع المالي عبر سياسات غير مدروسة واستنزاف احتياطات مصرف لبنان.
- تلعب الوزارة دوراً محورياً في تعيينات الحكومة والسيطرة على المساعدات، وتُتهم بعرقلة تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، مما يتطلب إصلاحات لتحقيق العدالة المالية والاقتصادية.
لم تكن وزارة المالية يوماً في لبنان مجرّد وزارة. فهي، رغم دورها المحوري في رسم السياسات المالية في البلد، إلا أنها كانت دوماً رمزاً للفساد والمحاصصات والصفقات التي أودت بلبنان إلى الدخول في واحد من أكبر الانهيارات الاقتصادية في التاريخ. وخلال السنوات التي لحقت الحرب الأهلية اللبنانية، كانت هذه الوزارة بمثابة ثقب أسود تتدفّق إليه أموال كافة اللبنانيين، فتختفي بموازنات قلّما كانت تعتمد التوزيع العادل للثروة، لا بل كانت هذه الأموال مسرحاً للتوزيع السياسي والحزبي، وآلية للإنفاق غير المدروس، وباباً دائماً لصفقات الفساد في الوزارات كافة، وضمناً المالية.
تسلمت وزارة المالية أحزابٌ مختلفة، وبين عامي 1990 و2014 كانت حصة تيار المستقبل هي الغالبة، فؤاد السنيورة 15 عاماً منها تقريباً، وكذلك جهاد أزعور، ومحمد شطح، وريا الحفار، ومحمد الصفدي المحسوب على 14 آذار وغيرهم، كما مر على الوزارة لفترات قصيرة عدد من الوزراء المستقلين من إلياس سابا، دميانوس قطار، وغيرهما.
وهذه الوزارة لها أهمية وصلت إلى حدّ اغتيال محمد شطح في عام 2013، وهو الذي كان من المرشحين الدائمين للعودة إلى الوزارة بعدما قاد دفتها بين عامي 2008 و2009.
إلا أن الوزارة الدسمة انتقلت إلى جناح ما يُلقب بـ "الثنائي الشيعي" (حزب الله وحركة أمل) منذ عام 2014، وعلى الرغم من التنوع السياسي والحزبي النسبي الذي طبع الوزراء السابقين، أصبحت هذه الوزارة فجأة "حصة" لأتباع رئيس مجلس النواب نبيه بري، تحت مبرر أنها وزارة سيادية وتدخل في المحاصصات المذهبية التي رسخها اتفاق الطائف.
وخلال كل هذه السنوات، باستثناء ولاية الوزراء المستقلين، كانت هذه الوزارة مصدراً لكل الأزمات التي ضربت لبنان وأودت به إلى الهاوية المالية والنقدية. إذ ارتكب الوزراء ما يوازي الجريمة المالية بإقرار موازنات من دون قطع حسابات السنوات السابقة، ما يعني وقف الدور الرقابي على إنفاق أموال اللبنانيين. طوال السنوات الماضية كانت النفقات كما الإيرادات محكومة بفوضى متعمدة، بددت مليارات الدولارات على مشاريع بلا جدوى، وصفقات فساد، وضياع أموال غير معروفة المصير، وسط صدور ملفات قضائية تفند المخالفات ولكن بالطبع من دون أي متابعة جدية للوصول إلى محاسبة المرتكبين. على مدى 34 عاماً، كانت هذه الوزارة مرتعاً للتوزيعات الحزبية والسياسية والمذهبية التي طاولت المال العام، عبر تحاصص المشاريع التي لم تسلم منها حتى تلك الممولة من جهات عربية ودولية.
وبطبيعة الحال، كانت الوزارة مسؤولة مباشرة عن الانهيار الكبير الذي يضرب لبنان، بعدما راكمت ديوناً ضخمة على مدى عقود بسبب سوء إدارة الموازنات الناتج بجزء منه عن الفساد والمحاصصات، مما جعل مصرف لبنان الممول الأساسي للعجز الحكومي عبر سندات الخزينة واليوروبوندز لتمويل الإنفاق الحكومي، وأُجبر المصرف المركزي على شراء جزء كبير من هذه السندات، ما أدى إلى استنزاف الفساد احتياطاته النقدية.
وخلال استلام "الثنائي" الوزارة، قام مصرف لبنان بقيادة رياض سلامة بين عامي 2016 و2019 بما يعرف بالهندسات المالية لجذب الدولار ودعم المصارف، لكن إضافة إلى المصارف كانت وزارة المالية المستفيد الأكبر، حيث تمكنت الحكومة من تأجيل إعلان إفلاسها بفضل هذه العمليات. وهذه السياسة أدت إلى استخدام أموال المودعين لسداد ديون الحكومة بدلاً من استثمارها في الاقتصاد، وصولاً إلى عام 2020، حين توقفت الوزارة عن سداد سندات اليوروبوندز، بما يعني إعلان إفلاس الدولة. ولم تتوقف الضربات هنا، لا بل امتدت إلى مماطلة وزارة المالية في التدقيق المالي في حسابات مصرف لبنان، لا بل إخفاء نتائج التحقيق الجنائي في حساب البنك المركزي حتى اللحظة، ما يحجب حقيقة الانهيار المالي الذي ضرب لبنان، ومن المستفيدين منه ومن المتهمين به.
وعلى الرغم من أن المصرف المركزي يجب أن يكون مستقلاً عن أي تدخلات سياسية، إلا أن لوزارة المالية وما تمثله من أحزاب (هي اليوم بيد الثنائي) دوراً أساسياً في تعيين حاكم مصرف لبنان ونوابه. ما يعني تضارب الصلاحيات، لا بل تواءم المصالح في قضية التحقيق الجنائي في الارتكابات المالية والنقدية.
والسيطرة على وزارة المالية لا تنحصر بأهداف مثل قرار الكشف عن الجرائم المالية والنقدية ومرتكبيها، لا بل هي آلية للسيطرة على كل الحكومة عبر توقيع موازنات الوزارات كافة، ما يعني أن يد الوزير المقبل ستكون هي الحكم في التوزيعات والمحاصصات لكل المشاريع ولكل القرارات ولكل ما يمكن تحصيله من المال العام.
وتتعدى أهمية وزارة المالية قضية التوقيع على غالبية المراسيم والمشاريع الحكومية، إذ إن للوزير كلمة الفصل في التعيينات العسكرية والأمنية، وصولاً إلى التعيينات في القضاء الذي يعاني من السيطرة السياسية والحزبية العنيفة التي تكرس الفوضى والفساد وغياب المحاسبة. كما أن للثنائي وزيرين متهمين بقضية انفجار مرفأ بيروت الذي اعتبر من الأكبر في التاريخ وأودى بحياة 220 ضحية، وهما علي حسن خليل (تابع لحركة أمل استلم وزارة المالية بين عامي 2014 و2020) وغازي زعيتر (تابع لحركة أمل استلم وزارة الأشغال بين عامي 2014 و2016).
ودور وزارة المالية هنا محوري في مسار تحقيقات الانفجار والكشف عن المجرمين، إذ إنه في يونيو/ حزيران 2022، وُجهت اتهامات لوزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل (حركة أمل، استلم وزارة المالية في عام 2021)، بعدم توقيع مرسوم التشكيلات القضائية الجزئية لرؤساء محاكم التمييز، ما أدى إلى شل التحقيقات، إذ رفض هذا الفريق التوقيع على بعض التعيينات القضائية التي كان من شأنها تسهيل التحقيق، ما أدى إلى مزيد من التأخير في القضية التي لا تزال تراوح مكانها منذ أكثر من أربع سنوات.
وكذلك، لوزارة المال سلطة الإمساك بكل ما يدخل إلى لبنان من مساعدات وقروض ومنح مستقبلية منها ما هو مرتبط بتعويضات الحرب، ومنها ما سيخصص لاستنهاض الاقتصاد، ما يعني القدرة على توظيف كل هذه الأموال في أنفاق الحزب والطائفة.
إنها الوزارة المغارة إذاً، خزنة الأسرار المالية والنقدية، منها يتم تسيير السلطات الاقتصادية والسياسية والأمنية والقضائية على أسس المواطنة ونبذ الفساد، وهي الأساس في انطلاقة لبنان بعدما يرمي عن ظهره ثقل العصابات والمليشيات، منها يبدأ التغيير بالسياسات المالية والنقدية لتكون لصالح الناس لا كما كانت طوال السنوات الماضية مصدر ثروات القلة، هي ركن صلب لاستنهاض الاقتصاد عبر إعداد موازنات عادلة وشاملة غير قائمة على توزيع المنافع بين العصابة، هي العدالة الضريبية، هي مصرف لبنان غير الفاسد ولا مهندس صفقات الفاسدين، هي محاكمة ناهبي ودائع الناس واسترجاع المليارات التي تم تهريبها إلى الخارج، هي استقلالية القضاء وتحقيق العدالة وضمنها إنصاف أهالي شهداء مرفأ بيروت... وإلا فتأبيد الفوضى المالية والنقدية، واستكمال عملية سطو المافيات على لبنان، وتحكم المليشيات بقراراته.