"أبو زعبل 89"... وثيقة غير انهزامية لليسار المصري

23 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 16:45 (توقيت القدس)
من الفيلم (IMDb)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "أبو زعبل 89" يعكس تأثير الاعتقال السياسي على الأسر من خلال قصة اعتقال والد المخرج بسام مرتضى، مسلطاً الضوء على غياب العدالة في المجتمع وتأثيره على الطفل.
- يعرض الفيلم معاناة العمال والمظاهرات، مستخدماً تقنية الميتا-سينما للتعبير عن ذكريات الفقد، مما يضيف بعداً شاعرياً للسرد السينمائي.
- الوثائقية تلعب دوراً محورياً في الحفاظ على ذاكرة جيل السبعينيات، حيث يجمع المخرج أرشيفاً يعكس الخيبات، مؤكداً على أهمية الشجاعة في صناعة الأفلام التسجيلية.

لو أن هناك شعورين، يحملهما فيلم "أبو زعبل 89"، لكانا الأسى والنبل. يحكي الفيلم آلام مصر (متمثلة بطبقة العمال والمدافعين عنهم) ما لم يُحكَ في أي فيلم حديث آخر. فقد مزج العام بالخاص، وأبرز تجليات قهر النظام السياسي في الحالتين، ما أدى إلى طفل يقاسي غياب والده، ويشعر بالسقوط من علٍ، ليولد إحساسٌ عام بغياب العدالة عن هذا الجانب المرئي من الدنيا.

تبدأ القصة بتذكر البطل بسام (المخرج) ذكريات طفولته، حين ذهب في زيارة مع أمه إلى سجن أبو زعبل بعد اعتقال والده نتيجة تضامنه مع عمال الحديد والصلب عام 1989. يتتبع الفيلم رحلة البطل مع والديه اللذين ينتميان إلى اليسار المصري، مستلهماً حكايته من رحلة طويلة من التواطؤ العائلي على حادثة اعتقال الأب، والتصاق الابن بوالدته حتى أضحت ذكرى الاعتقال سجناً في عقل الطفل يسير به طوال حياته.

الفيلم للمرة الأولى يقدّم خطاباً إنسانياً قبل أن يكون سياسياً. خطاب عمّا يحدث للناس وأسرهم إذا اعتُقلوا سياسياً. هذا جوهر الفيلم. عبقرية المخرج أنه أبرز كل ما هو عائلي حزين عبر سرد سياسي للحكاية، قال فيه شيئاً عن كل شيء: الإحباط من السياسة، وما أشبه اليوم بالبارحة من خلال فيديوهات شخصية لتظاهرات شارك فيها شاب في أثناء ثورة يناير وما تلاها، مطالباً بحقوق مُهدَرة للعمال، في ظل وقائع آنية لانتهاكات الأمن لإضرابات من إدفو إلى سمنود، وصولاً إلى الإسكندرية. هذه الحقوق الإنسانية المشروعة للعمال ربما كانت وصلة الحب التي ورثها الابن عن أبيه، الذي حذرته أمه وهو طفل بألّا يشبهه، لكنه لم يكفّ عن إكمال مسيرته في التضامن مع العمال وتقدير كدّهم.

في فيلمه "في انتظار العائد من الجبل" (2017) رصد بسام مرتضى معاناة عمال المحاجر في إحدى قرى المنيا، بين غالبية ساحقة لا تمتلك تأميناً صحياً، وآخرين يحكون مخاوفهم من احتمالية بتر الماكينات لأطرافهم. تنتظر أم كل يوم أن يعود ابنها كامل الجسد حتى لا يلحق بأخيه مبتور الذراع. كانت حالة من النضال السينمائي خاضها المخرج الشاب، معتنياً بما يشغله في الفيلم التسجيلي: كيف يمكن أن يعبّر أناس مهمشون عن أنفسهم في عالم لا يمتلكون فيه وسيطاً لذلك؟ ضبابية المحاجر البيضاء التي تغشي العمال حملها بسام في فيلمه الأحدث عبر ذاكرته المشوشة ليسبر قصة أبيه وأمه وسط غشاوة مجتمع وسلطة تجور على الضعفاء.

في إحدى حلقات قناته على يوتيوب، يحكي الكاتب بلال فضل عن موقف يُحسب لنقيب الصحافيين الأسبق مكرم محمد أحمد، وهو من مؤيدي نظام حسني مبارك، حين أحدث جلبة شديدة لفتح الزنازين خلال زيارة تفتيشية، ليجد الكاتب الصحافي محمد سيد سعيد مثخناً بجراحه من أثر التعذيب الشديد، يكاد أن تُزهق روحه.

في مجمل تذكره لآلام الاعتقال في السجن، ذكر الأب صديقه محمد سيد سعيد بدمعة وندم. ندم لأنه ظلمه بتعليمه ومعرفته منذ كان صغيراً، أشركه في تظاهرات يناير 1977 وضمه إلى كنفه، فجَرَى كل ما جرى له. خاض سعيد حياته كلها ناشطاً سياسياً شريفاً مدافعاً عن مظالم المواطنين، وناقداً للحكومة حتى أنه جابه حسني مبارك شخصياً حول خرقه للدستور في لقاء مغلق مع المثقفين عام 2005.

يتذكر محمود (الأب) ضيقه وشعوره بالتعب النفسي والعاطفي لأول مرة في السجن، ولم يجد أمامه غير حوض سقاية البهائم، ارتمى فيه وفتح صنبور الماء كي يكف عن التفكير وتتبع مشاعره. يحكي الأب في الخلفية، بينما الابن يعيد تمثيل موقف والده ومشاعره التي عاشها في السجن بعيداً عنه، ظاناً أنه غائب عقاباً له. يستشعر الابن ويعايش أباه بالكامل في حوض مماثل حديث للبهائم نبتت فيه نباتات أثر طول مدة التعفن، يقبض على النبتة وهو غائص بكامله في الماء الوسخ، محاولاً التشبث بأي شيء للنجاة من مشاعر طفولته، وليعذر أباه.

يعتقد الأب أنه ينتمي إلى جيل مهزوم، ربما لأنه يحمل في قلبه شعوراً بالذنب على جريمة "الألم الفائق" الذي أعاقه عن القيام بما يحلم به تجاه من يحب. بينما الأم، وهي تحكي عن صلابتها مقارنة بهشاشة الرجال ذوي الفكر والأحلام بتغيير العالم، ترسل رسالة مفادها بأنّ القهر العابر للجندر لم يكن كافياً لكسرها، لكن الغياب فعل.

جلسات الحكي التي يؤديها الفنان سيد رجب في الفيلم على خشبة المسرح تكشف الطريقة الكاملة للقبض عليه والإهانات التي تعرّض لها، ثم جلسات التفتيش الجماعي في السجن، التي كانت تُختتم بأنهم يضحكون على خوفهم ويفتشون أجساد بعضهم بحثاً عن علامات الضرب: "كأنهم عارفين فين الأماكن اللي توجعك في جسمك وتخلي روحك تروح". التروما في عيون الأب وتصرفاته هي عماد الفيلم. فالمهارة في سرد هذه المعاناة، ومعاناة الأم الصلبة، دون الوقوع في فخ الرقيب، هي أهم لعب السرد. يتحرر الأب من التروما عبر حضوره جلسات الحكي التي يستخدمها المخرج وثيقة فنية للحقيقة وما جرى، للكف عن الحيرة، بزيادة مساحة التعاطف عبر البوح المتبادل باللسان والعين.

استخدام تقنية الميتا-سينما في الفيلم كان المعبّر الجلي عن تغلغل ذكريات الفقد والغياب داخل وعي بسام الطفل والرجل. كان وحيداً أمام الشاشة الكبيرة، وحيداً أمام ألم طفولته. بعرضه لأرشيف والده ومشاهد السجن وصوره، يقف البطل حبيساً خارج شاشة سينما هي ذكرياته تنهار عليه، والظلام من حوله. السرد والمشاهد السينمائية في الفيلم أضافت بعداً شاعرياً له. فسرد الدنيا من عيون طفل، ثم إظهار تدهورها بغياب الأب، يخلقان حالة شجن وبُعداً بصرياً نفذه المونتير بحرفية عبر قطعات خاطفة على المشاهد القاتمة، ثم العودة إلى هدهدة حكي الوالدين المكلومين.

المشاهد التمثيلية القاتمة لإضراب المساجين وتجمهرهم بسبب الاعتداء على زملائهم السياسيين تظهر عالم السجون المصرية بشكل مغاير، بشكل حقيقي. تلك المشاهد هي التي خلقت الطابع البصري السوداوي في بعض أجزاء الفيلم، وعززت المضمون السياسي للعمل دون أن تقع في فخ الرقيب.

وثائقية الفيلم أهم ما فيه. فلولا جهود المخرج في تجميع قطع الفيلم وأرشيفه، لما ظل وجدان هذا الجيل، جيل السبعينيات، نابضاً حياً. تلك الوثائقية تنتصر على الخيبات والظلم المستمر حتى الآن. فكثير من الأشخاص الذين سُجنوا في عهد الفيلم لا يزالون يُسجنون اليوم، منهم الدكتور عبد الخالق فاروق، الباحث الاقتصادي وصاحب كتاب "أبو زعبل 89"، الذي اختاره المخرج اسماً لفيلمه تحية لعبد الخالق ونضالات جيله.

في ندوة الفيلم بعد عرضه في مكتبة الإسكندرية، صرّح المخرج، الذي يصف نفسه بأنه "تعب من المجاز"، بأنّ أكثر ما ساعده في تجربة صناعة فيلمه هو الشجاعة التي يمنحها الفيلم التسجيلي لصانعيه. يرى أنّ هذه الخطوة جزء من تطور اللغة السينمائية؛ "التي تشترط أن نصيب ونخطئ بدل أن نظل في أماكننا المعهودة في موقع السينما التسجيلية من المجتمع". فبعد أن كانت هناك سينما وثائقية تسجيلية بها قدر من التجريب والتفكيك، أصيبت الصناعة بالرتابة والتكرار، ومالت أكثر إلى الفيلم التسجيلي التلفزيوني الذي يصوّر الأشخاص كأحراز، ويكتفي بمقابلات شخصية مليئة بالمعلومات.

ربما أفسحت استشارة المخرج بسام مرتضى لصديقه المخرج الفلسطيني رائد أنضوني مساحة للتساؤل عن جدوى السؤال والذهنية في فيلمه وقت صناعته. فرائد، مخرج "اصطياد الأشباح"، أوحى إلى بسام ببناء سيرة شفهية للسجن، كذلك أعاد رائد بناء سجن المسكوبية الإسرائيلي في فيلمه. رفاق أبو زعبل يجتمعون في نهاية الفيلم في جلسة شاي ومسامرة ليبنوا تلك السيرة المؤجلة، ساخرين من ذكرى جسيمة ألمّت بهم، لكنهم لم ينهزموا، مرددين أبيات أحمد فؤاد نجم من قصيدة "بيانات على تذكرة مسجون": "الاسم صابر ع البلا أيوب حمار".

المساهمون