"أغورا" لعلاء الدين سليم: سينما مختلفة تُفكّك العلاقات البشرية

09 مايو 2025
"أغورا": شكلٌ سينمائي صعب للغاية (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يتميز المخرج التونسي علاء الدين سليم برؤية سينمائية فريدة تتناول العلاقات بين السلطة والأفراد، حيث يعكس فيلمه "أغورا" (2024) التوترات في مدينة تونسية معزولة بعد عودة أشخاص مفقودين بظروف غامضة.

- يبرز الفيلم بأسلوب بصري مميز، حيث يخلق سليم توازنًا بين المعاني الظاهرة والمخفية باستخدام صور شعرية وجمالية، مع دور محوري للموسيقى التصويرية في تعزيز المشاعر.

- يغامر سليم بتقديم سينما نوعية جديدة في تونس، معالجًا قضايا الذاكرة الجماعية وعلاقة السلطة بالدين، مما يعكس نقدًا لسياسات الدولة في التعامل مع الحقائق العلمية والدينية.

 

يمتلك المخرج التونسي علاء الدين سليم رؤية سينمائية مختلفة، جعلته يخرج عن السائد، وينفر منه. فهو يتحرّى التميّز، باختيار مواضيع عميقة وصلبة وناضجة، يطرح بها أسئلة الراهن، المتشابكة والمترابطة مع النواحي المختلفة للحياة، ليُفكّك عبرها العلاقات التي تجمع السلطة بالأفراد، وتلك التي تُنظّم الترابط بين المؤسّسات السياسية والأمنية والدينية.

هذا سياق عام، صاغ به فيلمه الروائي الطويل الأخير، "أغورا" (2024). العنوان مصطلح إغريقي، يُحيل الى الفضاء، أو الساحة التي يجتمع فيها السياسيون والفلاسفة وأصحاب التوجّهات الدينية، ويجمع غالباً مبانٍ تصوغ تلك المؤسّسات في فضاء واحد. في "أغورا" سليم، للعنوان دلالة قوية ومتشابكة ومتشظية مع فكرة العمل وفلسفته، بمعنى أنّه متناسق ومتّسق معه إلى حدّ كبير.

أحداث الفيلم جرت في مدينة بعيدة ومعزولة في تونس: عودة أشخاص، كانوا مفقودين، بمظاهر غامضة ومريبة وطارحة لأسئلة عدّة، أثارت توتراً وترقّباً في سكّانها، وباتت شغلهم الشاغل، وحديثهم اليومي.

يحاول فتحي (ناجي القنواتي)، مُفتّش الشرطة المحلية، كشف هذا اللغز، بمساعدة صديقه الطبيب أمين (بلال سلاطنية). لكنّهما يُذهلان سريعاً أمام غرابة الظاهرة. عند وصول عمر (مجد مستورة)، مفتش الشرطة، من العاصمة لاستجلاء الأمر، يحدث شرخ بين أولئك المُستعدّين للترحيب بالعائدين، والذين يعتبرون عودتهم لعنة على القرية، وعقاباً إلهياً. ثم يوسَّع الفريق الطبي، بضمّ أشخاص جدد من العاصمة، لاحتواء الوضع، ومنع انتشار الشائعات. بعدها، تُطرح استفهامات حول القاسم المشترك بين المفقودين: ألا يزال هناك وقت لفهم ما يقع؟ أسئلة غريبة كهذه تُطرح في ساحة المدينة (أغورا)، والكلاب طرفٌ مهمّ فيها أيضاً.

 

 

رغم غرائبية القصة وفانتازيتها، وتعدّد أبعاد التأويل فيها، حافظ علاء الدين سليم على خلق نسق جمالي بين المعنيين المخبّأ والظاهر. لذا، هناك تشابك قوي بين الثيمة والصورة (إدارة أمين المسعدي)، إذْ استطاع سليم التعبير عن سياقات الفيلم بخلق صُوَر شعرية جميلة ومُبهرة للغاية، لأنها تنبض بالمعنى، وتخدم الملفوظ جذرياً. هذا يدلّ على قوة اللغة السينمائية التي يُولّدها بضبط كادراته المشهدية برويّة واتقان واتزان، فخدمت بشكل جليّ المعنى المخبّأ، وجعلته أوضح وأعمق فهماً، والوضوح هنا ليس قتل التأويل بيقين المعنى، بل هو برسم الجماليات وتقويتها، وانسجام العناصر وسلاسة تركيبها ودمجها، لخلق الكلّ/الفيلم. حتى الموسيقى (رامي حرابي وإسماعيل الأسود وغسان بن إبراهيم)، شكّلت انعطافاً مهمّاً، وساعدت في صنع المشاعر وقيادتها إلى المعاني التي أراد سليم رسم سياقاتها، لإيصالها إلى المتلقي بإقناع، ومن دون حشو ومبالغة.

جازف سليم باختياره شكلاً سينمائياً صعباً للغاية. لكنّه نجح في هذه المغامرة، رغم تعقيدها، كما فعل قبله مخرجون تونسيون، باختيارهم الغرائبية، وبتوظيفها في أفلامهم، كعبد الحميد بوشناق في "فرططو الذهب" (2021)، والجيلالي السعيدي في "عصيان" (2021)، ويوسف الشابي في "أشكال" (2022). بهذا، وجد أرضية مناسبة لخوض غمار "سينما النوع" في تونس، بكل أريحية وجرأة. بذلك، ساهم هو الآخر في رسم معالم سينما تونسية مختلفة ومغايرة للسائد في العالم العربي.

هذه الخيارات الفنية والأشكال السينمائية قالب اختاره سليم لتعبئته بالمعنى الذي أراد إيصاله. في "أغورا"، فكّك العلاقة بين المؤسّسة الرسمية والفرد/المواطن، عبر كيفية تعاملها مع مسألتي الاختفاء والعودة الغامضة: صفّت أهالي العائدين، لمنعهم من الكلام وتوسيع نطاق الأسئلة، وتعاونت مع إمام المسجد لإعطاء طابع ديني لعودة هؤلاء، مع تشجيعهم على الصمت أو الاحتجاج. هذا يعكس كيفية تعامل المؤسسات الرسمية مع الدين لخدمة توجّهاتها. النتيجة: تتعامل الدولة كأنّها وحدها من تمتلك الحقيقة المطلقة. وإذا كانت هذه الحقيقة تهديدٌ لمصالحها، فمن حقّها وأدها، ولو أدّى ذلك إلى استعمال التصفية الجسدية. هذا حدث في جوانب عدّة من "أغورا"، مع عدم إعطاء أي فرصة لحقائق علمية تُفسّر الظاهرة، أو على الأقل، دراستها وفقاً لسياق علمي.

بالنسبة إليه، "أغورا" يطرح "مسألة الذاكرة الجماعية التي تزعج وتذكّر بإخفاقات كلّ مسؤول في الدولة. كما يتناول العلاقة غير الواضحة وغير الصحية بين السلطة السياسية والدين، ورغبتهما في التسترّ على كلّ شيء، والمضي قُدماً، مع تبنّي خيار عدم إيجاد حلول حقيقية".

أثبت علاء الدين سليم أنّه مخرج مُقتدر، صاحب موهبة ورؤية سينمائية. يعرف كيف يختار مواضيع أفلامه، وينجح في توظيفها. يعود هذا إلى التراكم والمرجعية التي صنعها في السنوات الأخيرة.

المساهمون