استمع إلى الملخص
- حادثة مقتل المصورة الفلسطينية فاطمة حسونة بعد اختيار فيلمها للمهرجان أثارت جدلاً حول موقف المهرجان من القضايا السياسية والإنسانية، مع انتقادات لردود فعله المتأخرة والضعيفة.
- تعرض المهرجان لانتقادات بسبب ازدواجية المعايير، حيث سمح بكلمة للرئيس الأوكراني بينما استبعد أفلاماً روسية، مما يضعف مصداقيته في الترويج لقيم الحرية.
عشية بدء الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان كانّ السينمائي، وقبل معرفة ما ستطرحه أفلامها من قضايا عالمية مُلحّة ومؤرقة، لا تخلو من السياسة طبعاً، بات ضرورياً، مع ما يحدث من مستجدات، التساؤل عن مدى كون المهرجان منصة فنية حرة ومفتوحة للجميع، ومهمومة حقّاً بإعلاء قيم الحق والخير والجمال، أو أقله المبادئ الفرنسية الثلاثة: حرية، إخاء، مساواة.
تساؤل يُطرح مع تشديد رئيسة المهرجان إريس كنوكلوخ، في المؤتمر الصحافي (10 إبريل/نيسان 2025)، على الدور التاريخي الذي اضطلع به "كانّ" منذ تأسيسه عام 1939، وتمسّك إدارته ـ في مناخ سياسي متوتر عالمياً، وتصاعد التطرّف والتعصب والانغلاق ـ بالقيم الجوهرية التي قام عليها: "وُلد المهرجان من رغبة صادقة في منح سينمائيي العالم ملاذاً آمناً، وأحياناً بالمعنى الحرفي للكلمة، وحَّدهم جميعاً، على اختلاف خلفياتهم".
المُثير للتساؤل أنّ كلمات برّاقة كهذه لم تصمد طويلاً أمام اختبار فعلي، يتشدّق بالحرية وسحر السينما. فبعد أقل من أسبوعين على التصريح بهذا، استشهدت المُصوّرة الصحافية الفلسطينية فاطمة حسونة (16 إبريل/نيسان 2025، بعد شهر واحد فقط على بلوغها 25 عاماً)، بطلة الوثائقي "ضع روحك على كفّك وامشِ"، للإيرانية زبيدة فارسي، في غارة جوية إسرائيلية، استهدفت منزلها في مدينة غزة، مع تسعة أفراد من أسرتها. المؤلم أنّ فارسي تحدّثت معها قبل ساعات على الغارة لإخبارها باختيار الفيلم في المهرجان، ودعوتها إليه، ومحاولة التواصل مع السفارة الفرنسية في فلسطين المحتلّة لتأمين خروجها وعودتها إلى القطاع. لذا، أعربت عن مخاوفها من أنْ استهداف حسونة متعمّد بسبب عملها الصحافي، خاصة بعد الإعلان عن اختيار الفيلم، مؤكّدة شعورها بالذنب، واحتمال أنّ فاطمة استُهدفت بسببه، في اليوم التالي لإعلان برنامج قسم ACID عن اختياره، لأنّه يُقدّم نظرة حميمة ومباشرة على الحياة في حصار غزة.
فور إعلان مقتلها، أصدر القسم بياناً عن "الصدمة والفزع"، مُشيداً بشجاعتها وتفانيها في توثيق الحياة في غزة، رغم القصف والجوع والحزن. أضاف البيان أنّ الفيلم، بلقطاته وشهاداته الموثّقة للحياة اليومية في الحرب، نافذةٌ على غزة، وشهادة إنسانية عميقة عن الأمل والكرامة في أحلك لحظات الحياة. والقسم "فخورٌ" بتمثيل هذا العمل الضروري والملح، وإيصال صوت فاطمة إلى العالم.
بعد صمت مريب، غير مفهوم ولا مُبرّر، أكثر من أسبوع، نشرت إدارة مهرجان كانّ في صفحاتها الرسمية بياناً مُهلهلاً ومُخزياً، يُعتبر سُبة في تاريخه، وجعل متابعين كثيرين لصفحاته يهاجمونه مباشرة، ما اضطرّ الإدارة إلى إعادة صياغته أكثر من مرّة، ومحاولة استخدام تعابير أخرى أقوى، لكنّها في النهاية مواربة، تصبّ قولاً واحداً في خانة الجبن، وانعدام المسؤولية الأخلاقية والأدبية قبل الفنية.
في البيان الأول، أعرب المهرجان عن أسفه، لأنّ فاطمة حسونة "اختفت" ولم تعد موجودة. هذا أثار غضب المتابعين، وأطلق هجوماً ضارياً على ضعف البيان وركاكته، وتحديداً لأنّها "لم تختف" بل قُتلت، ولأنّ الإدارة تعرف من قتلها. لاحقاً، ذكرت الإدارة أنّ "موت" حسونة "تراجيديّ"، ما أثار مجدّداً غضب الجميع، الذين قالوا إنّ ما حصل "جريمة قتل"، وربما متعمّدة، لا حدث تراجيدي. ثمّ عُدّل البيان، فوصف الأمر بأنّه "حادث مؤسف"، جراء صاروخ استهدف منزلها، ما أثار سخرية لاذعة من كون الصاروخ سقط من السماء، أو أرسلته كائنات فضائية، بينما هاجم البعض إدارة المهرجان صراحة، واصفاً المسؤولين فيها بأنّهم جبناء، أو لا يتحلّون بالشجاعة والصراحة، ويخشون ذكر القاتل: "لماذا الخوف من ذكر كلمة إسرائيل في بيانكم؟"، و"أين الإدانة، أو اتّخاذ موقف إزاء جريمة، يعلم العالم كلّه من ارتكبها". في النهاية، لم يتجاسر أحد على تعديل أخير، يصف بمصداقية وجرأة ومسؤولية ما حدث فعلاً، ويذكر القاتل، ويُحدّده.
بيان كهذا ينمّ عن ارتباك وتخبّط وسوء تقدير، وعن جبن وتغاضٍ عن الحقائق، ما يُفقد المهرجان وإدارته أي مصداقية، خاصة عند التشدّق بأنّه "بعيدٌ تماماً عن السياسة"، والتأكيد على أنّه ليس منخرطاً أو طرفًا، إلى آخر هذه "الأكاذيب". في حين أفسح المهرجان نفسه المجال، في حفلة افتتاح دورته الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2025)، لكلمة سياسية بامتياز للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينيسكي، على الهواء مباشرة، لأكثر من ربع ساعة. كما أقصى، ولا يزال، أفلاماً روسية وفنانين وفنانات روسا من الاشتراك في كلّ برامجه، رافضاً منح اعتمادات لصحافيين ونقّاد روس أيضاً.
هذا حصل اتّساقاً مع إقصاء الوجود الروسي من كل النشاطات الأوروبية، ولم يستطع المهرجان الرائد خرق هذا الإجماع، وكسر الحصار الجائر على الفنانين الروس، من دون تفرقة بين المؤيدين والمعارضين للنظام الروسي. المهرجان نفسه تضامن سابقاً مع فنانين إيرانيين، وسعى حثيثاً إلى عرض أفلامهم في دورات عدّة، بغضّ النظر عن تبعات وعواقب ربما يتعرّضون لها في بلدهم.
ما سبق يدعو إلى تأمّل عميق، وإعادة تفكير في وصم مهرجان برلين بأنّه مهرجان سياسي. بينما في "كانّ"، لم تعد الأمور تختلف كثيراً. صحيح أنّ مسؤولي "كانّ" يراوغون ويعالجون المواقف بـ"شياكة" أو مواربة وخبث، لا يمكن مقارنتها بـ"سفور" و"بجاحة" مسؤولي الـ"برليناله". لكنْ، مع تضارب المصالح، وازدواجية المعايير، والخوف من تحمّل المسؤولية وافتضاح النفاق المتعلّق بكلّ ما يمتّ للقيم الإنسانية والأخلاقية والمهنية بصلة، على إدارة "كانّ" عدم التشدّق بالحريات، وتوحيد الفنانين، وعدم التفرقة، والابتعاد عن السياسة.