إعادة رسم خريطة الإعلام الأميركي... نحو اليمين أكثر فأكثر
استمع إلى الملخص
- شهدت المؤسسات الإعلامية تحولات في الملكية والتوجهات، مثل تعيين كينيث وينشتاين في "سي بي إس نيوز" وسعي "باراماونت" للاستحواذ على "وارنر براذرز ديسكفري"، مما يعكس محاولات لتوجيه السياسة التحريرية نحو الأجندة اليمينية.
- تثير هذه التحولات مخاوف حول حرية الصحافة في الولايات المتحدة، حيث يُنظر إليها كمحاولات لإعادة هندسة الإعلام لخدمة أجندة يمينية، مما يهدد استقلالية ومصداقية المؤسسات الإعلامية.
يبدو أنّ معركة دونالد ترامب مع الإعلام الأميركي لم تعد محصورة في الاتهامات العلنية أو السجالات السياسية، إذ أعلن، أمس الاثنين، أنه سيقيم دعوى قضائية ضد صحيفة نيويورك تايمز بتهمة التشهير والقذف، مطالباً بتعويض قيمته 15 مليار دولار. وفي منشور على منصته تروث سوشال، كتب ترامب: "سُمح لصحيفة نيويورك تايمز بالكذب والتشهير بي بحرية لفترة طويلة للغاية، وهذا سيتوقف الآن!". وأضاف أنّ النظر في الدعوى سيكون في ولاية فلوريدا، قبل أن يصف الصحيفة بأنها "واحدة من أسوأ الصحف وأكثرها انحطاطاً في تاريخ بلادنا"، متهماً إياها بأنها الناطق الفعلي باسم "الحزب الديمقراطي اليساري المتطرف".
وهذه ليست المرة الأولى التي يشنّ فيها ترامب حرباً قضائية على الإعلام. ففي يوليو/تموز الماضي، رفع دعوى على "وول ستريت جورنال" المملوكة لقطب الإعلام روبرت مردوخ، مطالباً بتعويض لا يقل عن 10 مليارات دولار، على خلفية تقرير عن علاقته بالملياردير المدان بجرائم الاتجار بالجنس جيفري إبستين. ونشرت الصحيفة تفاصيل عن بطاقة معايدة وُصفت بأنها "فاحشة"، قالت إنها تحمل صورة عارية وتوقيع ترامب، بينما نفى الأخير أي صلة بها. هذه النزاعات القضائية تبدو للوهلة الأولى مجرد معارك شخصية بين ترامب وصحف عريقة، لكن التدقيق في المشهد الأوسع يكشف أنها جزء من استراتيجية متكاملة لإعادة رسم الخريطة الإعلامية الأميركية، حيث يسعى اليمين، بقيادة ترامب، إلى السيطرة على المؤسسات الكبرى، أو إخضاعها للترهيب، بهدف توجيه الخطاب الإعلامي نحو يمينية متشددة.
إعادة هندسة الإعلام الأميركي
التحولات الأبرز تجسدت أخيراً في شبكة سي بي إس نيوز التي لطالما عُرفت بأنها منبر لأعلام الصحافة الأميركية، مثل والتر كرونكايت وإدوارد مورو. إذ عيّنت الشركة الأم باراماونت -التي استحوذت عليها عائلة الملياردير لاري إليسون الصديق المقرب لترامب- كينيث وينشتاين، المقرب أيضاً من ترامب، في منصب مسؤول شكاوى الجمهور (ombudsman). وينشتاين الذي رأس سابقاً مركز هدسون المحافظ للأبحاث لا يملك خبرة صحافية، ما أثار شكوكاً بأن تعيينه هدفه خلق قناة مباشرة لتأثير البيت الأبيض في عمل الشبكة. وعلقت مديرة كلية الصحافة في جامعة ويسكونسن - ماديسون، كاثلين كولفر، قائلة: "قد يكون الهدف تهدئة هجمات ترامب ضد تحيّز الإعلام، أو ربما إعادة تصميم (سي بي إس) نحو توجه حزبي واضح، ينسجم مع أهداف المالك السياسية، أو بدافع البحث عن جمهور وربح أكبر".
لكن التوقيت أثار مزيداً من الريبة، فقد جاء بعد أيام من احتجاج وزيرة الأمن الداخلي، كريستي نويم، على ما قالت إنه تحرير منحاز لمقابلة معها، وبعد تسوية أبرمتها "باراماونت - سي بي إس" مع ترامب، وافقت فيها على دفع 16 مليون دولار في نزاع قانوني حول مقابلة مع كامالا هاريس في برنامج "60 دقيقة" الشهير. وفي حديث لصحيفة ذا غارديان البريطانية، قال أستاذ الإعلام في جامعة سيراكيوز، بوب تومبسون، إن تسوية "سي بي إس" مع ترامب في قضية "برنامج "60 دقيقة" كانت "بوضوح تنازلاً للحكومة الفيدرالية"، معتبراً أنها سابقة لم يعرف لها مثيل في تاريخ الصحافة الأميركية. كما ألغت الشبكة برنامج ستيفن كولبير "ذا ليت شو" (The Late Show)، بعد ثلاثة أيام من انتقاد الكوميديان لها لإبرامها التسوية مع ترامب. هذه الخطوات عُدّت بمثابة تنازل نادر من مؤسسة إعلامية عريقة أمام ضغوط سياسية واضحة.
"باراماونت" لم تكتفِ بذلك، فهي تسعى الآن إلى شراء "وارنر براذرز ديسكفري"، الشركة المالكة لشبكة سي أن أن، ما يعني احتمال وضع واحدة من أكثر الشبكات تأثيراً تحت سقف تكتل إعلامي بات يميل أكثر فأكثر نحو ترامب. وفي الوقت نفسه، تداولت تقارير إخبارية أن الرئيس التنفيذي الجديد للشركة، ديفيد إليسون، يفاوض لشراء منصة Free Press المناهضة لما يسمى بثقافة "التيقظ السياسي" (woke) التي أسستها الصحافية المثيرة للجدل باري وايز. صفقة كهذه قد تمنح وايز دوراً مباشراً في إعادة صياغة السياسة التحريرية لـ"سي بي إس"، في خطوة من شأنها إحداث تحول عميق في هوية مؤسسة ارتبط اسمها لعقود بالمصداقية.
ترسيخ الهيمنة اليمينية
في موازاة ذلك، شهدت إمبراطورية روبرت مردوخ الإعلامية تطورات مفصلية؛ انتهى نزاع عائلي طويل بصفقة، تضمن أن يظل لاكلان مردوخ، النجل الأكبر، إلى جانب شقيقتيه كلوي وغريس، على رأس المجموعة الإعلامية حتى عام 2050، ما يحفظ التوجه المحافظ المتشدد لشبكة فوكس نيوز وغيرها من المؤسسات التابعة. أما الأشقاء الآخرون، جيمس وإليزابيث وبرودنس، فانسحبوا مقابل 1.1 مليار دولار لكل منهم. "فوكس نيوز"، التي تمثل رأس الحربة الإعلامية لليمين، عززت مكانتها الاقتصادية والسياسية، فقد ارتفعت أسهم الشركة بأكثر من 40% منذ إعادة انتخاب ترامب، كما استحوذت القناة على 63% من جمهور الأخبار التلفزيونية اليومي، و65% من المشاهدين في أوقات الذروة، بينما فقدت "سي أن أن" و"إم إس أن بي سي" نصف جمهوريهما. لكن علاقة ترامب بمردوخ لا تخلو من التوتر. وبينما يلاحق الرئيس الأميركي دعوى ضد "وول ستريت جورنال" التابعة للمجموعة، يرى خبراء الإعلام أن مردوخ و"فوكس" سيظلان حليفين أساسيين في مشروع اليمين السياسي.
طرد الأصوات المعارضة
لم تقتصر التحولات على المؤسسات المملوكة لحلفاء ترامب. ففي "واشنطن بوست"، المملوكة لجيف بيزوس، عيّن الصحافي آدم أونيل، القادم من "ذي إيكونوميست" و"وول ستريت جورنال"، لقيادة صفحات الرأي، بهدف التركيز على "الحريات الفردية واقتصاد السوق الحر". هذه الخطوة فُسرت كدليل إضافي على انزياح مؤسسة كانت تُعتبر أقرب إلى الوسط أو اليسار، نحو أجندة أكثر يمينية. في الوقت نفسه، أعلنت الصحافية كارين عطية، كاتبة العمود في الصحيفة نفسها، أنها طُردت من عملها بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، عقِب اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك. عطية قالت، الاثنين، إنها عبّرت عن رفضها العنف السياسي، وعن غضبها من "فشل أميركا البيضاء في معالجة العنف المسلح،" لكن إدارة الصحيفة اعتبرت تلك المنشورات "سلوكاً مشيناً يعرّض زملاءها للخطر".
مؤسسات أخرى تخلت عن موظفين أدلوا بتصريحات علنية بشأن اغتيال كيرك، فـ"إم إس أن بي سي" طردت، الأسبوع الماضي، المحلّل السياسي ماثيو داود، بعدما قال على الهواء إن كيرك "روّج" لخطاب الكراهية. وفي بعض الحالات، يشجع مؤثّرون يمينيون متابعيهم على تمشيط الإنترنت بحثاً عن تعليقات تحتفي بالاغتيال والتواصل مع أرباب عمل أصحابها. بالنسبة لكثيرين، مثل هذه الإجراءات تمثل أداة ترهيب جديدة ضد الصحافيين الذين يتجرأون على التعبير عن آراء مخالفة، حتى خارج صفحات العمل الرسمية.
مخاوف على مستقبل الصحافة الحرة
كل هذه التطورات -من دعاوى ترامب ضد "نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال"، إلى إعادة هيكلة "سي بي إس"، واستحواذات "باراماونت"، وترسيخ هيمنة "فوكس نيوز"، وتقلبات "واشنطن بوست"- تثير أسئلة حول مستقبل الإعلام الأميركي. نقاد الإعلام يرون أن ما يجري ليس مجرد تغيّر في ملكيات أو سياسات تحريرية، بل هو إعادة هندسة شاملة لمجال الإعلام بما يخدم أجندة يمينية سلطوية، تُستخدم فيها أدوات القانون والاقتصاد والسوق والرقابة الداخلية لتضييق حرية الصحافة وخنق الأصوات المستقلة. ولم يعد الأمر يتعلق بصراع شخصي بين رئيس سابق وصحيفة معارضة، بل بملامح مشروع متكامل يهدد بتحويل الإعلام الأميركي إلى ساحة خاضعة لإملاءات رأس المال السياسي واليمين السلطوي. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تستطيع المؤسسات الإعلامية الأميركية الصمود أمام هذه الموجة؟