"الحياة بعد سهام" لنمير عبد المسيح: توثيق ذاتي لحيوات أفراد

18 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 08:18 (توقيت القدس)
"الحياة بعد سهام": توثيق الذاتيّ سينمائياً (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "الحياة بعد سهام" (2025) للمخرج نمير عبد المسيح يجمع بين الوثائقي والروائي، ويستعرض حياة والديه من مصر إلى فرنسا، مركّزًا على علاقتهم وتأثير وفاة والدته سهام.
- يستكشف الفيلم الجوانب المسكوت عنها في حياة والديه، بما في ذلك قصة حبهم في ظل ظروف سياسية معقدة، وتأثير قرارهم بإرسال نمير إلى مصر على حياته.
- يعكس الفيلم فلسفة نمير حول الحياة والموت، ويبرز العلاقة بين الأب والابن بعد وفاة الأم، ويُعرض في مهرجان "كانّ" كعمل سينمائي حميمي وصريح.

 

لأنّ فيلمه "الحياة بعد سهام" (2025) شخصي، يحكي عن عائلته وعنه، يأخذ سرده الحكائي شكلاً يشبه صاحبه: هادئ وصريح، ينظر إلى الأشياء ويتعامل معها وفق تكوينه الغربي، الميّال إلى طرح الأسئلة وملاحقتها، من دون إثارة حفيظة الآخر، المُنتظر منه إجابة عنها.

يتعامل نمير عبد المسيح مع مشروعه السينمائي كأنّه منجز خاص، شخصي بحت. يُصوّر ويُسجّل ما يريده كما يشاء، وعندما يشاء. يحكي فيه عن علاقته بوالديه سهام ووجيه عبد المسيح. لكثرة ما يُصوّرها (تسجيلاً)، تطلب منه أن تظهر معه في فيلمه الروائي المُنتظر. يعدها بما تريد: أنْ يكون مختلفاً عن فيلمه الأسبق، المُكرّس لعائلته في مصر. المَشاهد الأولى من وثائقيّه، المُصوّرة في شقة والديه في باريس، تشي برغبةٍ في أنْ يأخذ المخيال السينمائي ما يتجنّبون الحكي عنه في الواقع. هذا الخيار المقترح يتوافق مع طبيعة والده الميّال إلى الصمت، والمُقلّ في التعبير الصريح عن مشاعره أمام الآخرين. بعكسه، تبدو سهام أكثر حيوية وحضوراً في حياتهما اليومية: حنونة وصارمة، وحضورها الطاغي يشمل الجِدّ والهزل. سلوكها الحنون يُقرِّب الآخرين إليها.

يوم وفاتها، يطلب نمير من صديقه نيكولا دوشين (مصوّر الفيلم) الحضور لتصوير مراسم الدفن. فالابن يريد أنْ يكون، هذه المرة، جزءاً من مشهد توديعها. لا يترك مسافة بينه وبينها، كما كان يفعل دائماً عند تصويرها حيّة. موتها يترك فراغاً محسوساً في المكان، وفي دواخل المُقرّبين منها، فيبدو الوثائقي كأنّ جانباً منه تعطّل. لتعويضه، يقرّر نمير، بدافع الإيفاء بوعده لها، إنجاز فيلم ليس روائياً، كما تمنّت في لحظة صفاء ومرح، بل وثائقياً، عنها وعن رحلتها مع والده من مصر إلى فرنسا. يقترح على زميلته، السيناريست سونيا موير (الكتابة مشتركة بينهما)، مقاربة ما توفّر عنده من قصة حياتها بمَشاهِد مُقتطعة من أفلام مصرية كلاسيكية، أكثرها ليوسف شاهين، تحاكي جانباً ممّا مرّت به وعاشته.

هذا الخيار يفتح مساحة واسعة لتجريب أنواع من السرد، تتوافق ورغبة صانعه في تقديم فيلمٍ شخصي، يماثل التنويع الذي نشأ وتكوّن عليه. باختلاط موروثه المسيحي المصري، وتكوينه الغربي، تضحى أسئلة الموت والغياب والوحدة أكثر قبولاً للطرح والمعاينة. هذا جعل "الحياة بعد سهام"، المعروض في برنامج "أسيد" (جمعية السينما المستقلّة) في الدورة 78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، حميمياً وصريحاً في مقاربة الشخصي بالعام، وقريباً من "أبو زعبل 89" للمصري بسام مرتضى، في محاولته التعمّق في الذاتي، مروراً بالعام المؤثّر في تجارب شخصياته. بهما، يُفتح الباب لتوقّع نقدي برغبة سينمائيين مصريين في الذهاب إلى الوجهة نفسها، التي مضى إليها قبلهما مخرجون لبنانيون كثيرون.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في قصتها مع زوجها، هناك جانب مسكوت عنه، يريد الابن التوقّف عنده ومعرفته. الفراغ الذي تركته يفرض تقارباً أكثر بينه وبين والده، المُتكتّم حتى عن تجربته السياسية المهمّة، وقصّة تعارفهما وحبهما في ظروف مُعقّدة. سهام مسيحية ريفية الجذور ومتعلّمة، لم يرفّ قلبها لخطيبٍ كما رفّ لشاب خارج للتوّ من السجن، بعد الحكم عليه لنشاطه السياسي المعارض لسياسة جمال عبد الناصر، ولانتمائه إلى صفوف الحزب الشيوعي المصري. خروجه جاء بعد تحوّل مواقف سياسية، أرادت إنجاز بناء سدّ أسوان بمساعدة السوفييت. ثمن العلاقة الجديدة إطلاق سراح السجناء السياسيين اليساريين، بينهم وجيه عبد المسيح. لم يدم هذا في عهد السادات، الذي شرع بمضايقة اليسار المصري، فقرّر وجيه المغادرة إلى فرنسا. في ما يخص الابن، هناك غموض في الفترة الفاصلة بين ذهابه إلى هناك، وبقاء زوجته في مصر، لعلاقته بما سيعرفه لاحقاً، ويخصّ نشأته وتكوينه الشخصي. بعد التحاق الأم بزوجها، بفترة قصيرة، تحمل بنمير، وتتعقّد ظروف معيشتهما أكثر بسبب العوز.

في لحظة مصارحة، يتكشّف له أنّ والديه، بسبب صعوبات حياتهما في المهجر، يُقرّران تكليف خالته في مصر العناية به رضيعاً. أكثر من سنتين عاش هناك، وبعدها أعادوه إلى المدينة الفرنسية بولوني. يترك هذا الهجر القاسي غصّة فيه، لكنّه لا يُحمّل أحداً ذنباً بسببه. على العكس، يُعزّز ذلك لديه قناعة لاحقة بأنّ الحياة، المَعِيشة بكل طولها، تكتنف دائماً أوجاعاً وهجراً قاسياً، يعمل نمير السينمائي على مكاشفة نفسه بها، بوعي فنان. ما يهمّه منها، في النهاية، معرفة ذلك التاريخ الغامض، ليعيش بعده، وبقية أفراد عائلته، حياتهم كما يُفترض بها أنْ تُعاش.

بعفويةٍ، صادمة ببساطتها، يتعامل الابن مزدوج الثقافة مع الزمن بوصفه مساراً قهرياً، تنتهي حياة الأفراد فيه بالوحدة، منعزلين عن الذين كانوا يحيطون بهم، ويتشاركون معهم تفاصيل الحياة. تقارب عزلة وجيه، بعد موت سهام، ذلك التصوّر الفلسفي عنده للحياة، ومساراتها الحتمية. نهاية حياة الأب تشبه نهاية علاقته بزوجته، وطلاقه منها.

لا شيء يدوم في هذا الكون. هذا يراقبه الابن في سلوك من أحب أمّه: أحفادها الذين أثّر فيهم موتها، واليوم حين كبروا وانشغلوا بذواتهم نسوها أو يكادون. يقف نمير متأملاً حالة النسيان، بعد الحزن الشديد للناس على فراق أحبّة وغيابهم. ربما الكلمات الجميلة كتلك، التي يخاطب بها الأب الصموت ابنه لأول مرة، كأنّه يعلن بها اقتراب نهاية حياته وعلاقته بالعالم، هي الأبقى في الذاكرة، وكلّ ما في تلك الرحلات الحياتية العجيبة يغيب ويُنسى.

قلّة هم المحظوظون، الذين لديهم أبناء سينمائيون قادرون على توثيقها، كنمير عبد المسيح، بلغة بصرية جميلة، تتّسع لتجريب أسلوبي ممتع، ومُبرَّر سينمائياً.

المساهمون