"النجاة من سقوط البلاك هوك"... كابوس أميركي آخر

18 مارس 2025
أسفرت العملية عن مقتل 18 جندياً أميركياً (نتفليكس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يقدم المسلسل الوثائقي "Surviving Black Hawk Down" سردًا شاملًا لمعركة مقديشو 1993، مسلطًا الضوء على الفوضى والدمار من خلال شهادات حية ولقطات أرشيفية، مع التركيز على الأصوات الصومالية والأميركية.
- يُقسم المسلسل إلى ثلاثة محاور: التخطيط العسكري الأميركي، المعركة الدموية، والعواقب الإنسانية والسياسية، مع إبراز المدنيين الصوماليين كضحايا لحرب لم يختاروها.
- يبرز المسلسل شهادات صوماليين وجنود أميركيين، مما يساهم في تغيير الرأي العام الأميركي، لكنه يُنتقد لعدم تحليل الدور الأميركي في تغذية الفوضى في الصومال.

"سقوط البلاك هوك كان أسعد لحظات حياتي". (جملة قالها أحد المقاتلين الصوماليين في جيش عيديد).
في عالمٍ تُهيمن عليه الروايات أحادية الجانب عن الحروب والبطولات، يأتي المسلسل الوثائقي Surviving Black Hawk Down الذي صدر أخيراً (نتفليكس) ليكسر هذه الهيمنة التي أصبحت مملة منذ زمن طويل، وذلك عبر سردٍ متعدد الأوجه لمعركة مقديشو التي حدثت في أكتوبر/تشرين الأول 1993، بعد أن حوّل الجيش الأميركي شوارع المدينة المكتظة بالمدنيين إلى ساحة اختبارٍ لأوهام العظمة.
المخرج جاك ماكينيس يُعيد تشريح الأحداث التي تناولها فيلم Black Hawk Down عام 2001 للمخرج الشهير ريدلي سكوت، لكن بعينٍ أكثر توازناً، تمنح الصوت للصوماليين كما الأميركيين. يحاول ماكينيس تصحيح السجل التاريخي عبر سردٍ وثائقيّ يجمع بين الشهادات الحية ولقطات الأرشيفين الصومالي والأميركي، وإعادة التمثيل الدرامي لمشاهد المعركة وفوضويتها. كان فيلم سكوت عملاً فنياً مذهلاً تقنياً، وحصد اهتماماً وجوائز كثيرة، إلا أنه وُوجِهَ بنقدٍ حاد بسبب تمجيده البطولة الأميركية على حساب تجاهل الضحايا الصوماليين.
يُقسّم المسلسل المكون من ثلاث حلقات الأحداثَ إلى ثلاثة محاور: التخطيط العسكري الأميركي، والمعركة الدموية، والعواقب الإنسانية والسياسية. نجح المخرج بكسره الإطار الزمني الخطي لصالح سردٍ غير متكافئ، محاولاً بذلك إظهار طبيعة الحرب الفوضوية. الحلقة الأولى تُظهر الجنود الأميركيين وهم يلعبون "ريسك" على شاطئ مقديشو قبل الغارة، في مشهدٍ سوريالي يُجسّد ثقتهم المفرطة بقدرتهم على احتلال دولٍ وهميّة، بينما الحلقتان الثانية والثالثة تعرضان هذا الوهم عندما تحوّل إلى كابوس.
ماكينيس ساعدنا على استنشاق رائحة الحرب التي تطغى فيها رائحة النفاق الدوليّ. العملية الإنسانية الأميركية لحماية المساعدات الإنسانيّة المقدمة من الأمم المتحدة تحولت إلى مجزرة دموية خلّفت مئات الضحايا. مروحيات البلاك هوك بكل ما تحمله من رمزية تسقط كالذباب المحترق، والجنود المرتعبون يبحثون عن مخرجٍ من متاهة صنعوها بأيديهم. بعد ثلاثين عاماً، يُطرح السؤال من جديد: من يمتلك حق صناعة السرديّة عما حدث في مدينته بعد فوضى لا بطولة فيها وضحايا لا أسماء لهم وذاكرة مسروقة؟
يُعطي المسلسل (للمفارقة أنتجته شركة ريدلي سكوت) مساحةً واسعة للصوماليين، كنور حسن سائق التاكسي الذي انضم إلى المليشيات بعد أن ضربه جنود أميركيون، والمصور أحمد الملقب بفايف الذي وثّق المجازر بكاميرته البدائية، وحليمة التي شهدت مقتل أطفالها بقذائف البلاك هوك. هذه الشهادات تُظهر الرواية الأخرى وتشرح كيف تحوّل المدنيون إلى وقودٍ لحرب لم يختاروها.
في المقابل، الجنود الأميركيون ليسوا أبطالاً، بل هم ضحايا نظامٍ درّبهم على القتل. يبدو أن المخرج واقعٌ تحت سحر أفلام ستانلي كوبرك، فأحد الجنود يقول: "أصبحتُ آلة، لم أعد أعرف من أنا"، لكنه لا يمنحنا رفاهية التعاطف معهم؛ فهو يقطع المشهد بلقطاتٍ وثقها أحمد فايف للبلاك هوك وهي تحصد المدنيين. فايف الذي وثّق الجثث الأميركية وهي تُسحل، والطيار مايكل ديورانت وهو يُستجوب، ساهما في تغيير الرأي العام الأميركي لاحقاً.
هذه المعركة جزء من عملية سُميت الثعبان القوطي، أسفرت عن مقتل 18 جندياً أميركياً. وقدرت المصادر الأميركية وقوع ما بين 1500 و3000 ضحية صومالية، بمن فيهم مدنيون، وأعلن التحالف الوطني الصومالي عن مقتل 315 شخصاً وجرح 812 آخرين. هذه الأرقام المتضاربة دليل على ضبابية الملف السياسي لهذه العملية. على الرغم من جرأته بطرح القضيّة، يلام المسلسل بهروبه من تحليل الدور الأميركي في تغذية الفوضى في الصومال، علماً أن محمد فرح عيديد، الذي جُهزت المعركة برمتها للقضاء عليه، كان حليفاً للولايات المتحدة قبل أن يصبح عدواً.

يعتمد المخرج على تقديم مشاهد إعادة التمثيل تصوراً للمعارك بكثافتها الحركيّة حسب ما روى الجنود، ولا يضفي بطولة عليها، وهذا يحسب له. المقابلات الحديثة تُكمل معنى المَشاهِد، فالجنود الأميركيون يتحدثون صراحةً عن اضطراب ما بعد الصدمة، والصوماليون يروون كيف دمّرت الحرب أجيالاً كاملة في بلادهم وما زالت.
نجح المسلسل بطريقة غير مباشرة في تحطيم الأسطورة التي قدمها ريدلي سكوت عام 2001، وحول القصة إلى رواية إنسانيّة معقدة، فالجميع ضحايا والجميع مذنبون. هذه السلعة الوثائقية وصُنَّاعها ما زالوا يتحكمون بالشطر الأكبر من الروايّة والسرديّة، يغلفون بطولاتهم السابقة بالندم ويبثونها لنا على "نتفليكس".

المساهمون