جياكومو بوتشيني... العبور إلى بِل كانتو

03 ديسمبر 2024
تمرّ 100 عام على رحيله (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تميز جياكومو بوتشيني بتوفيق بين التقاليد الأوبرالية والابتكار، معبراً عن روح عصره من خلال توازن بين الجماليات التقليدية والانفتاح على الأساليب الحديثة، مما يعكس هويته الفردية والثقافية.
- تأثرت موسيقاه بالهوية الثقافية الإيطالية، حيث جعل من الغناء أداة تعبيرية مركزية، مما أضفى على أعماله تأثيرًا شعوريًا عاليًا وتحديًا تقنيًا للمؤدين.
- أظهر انفتاحًا على التطورات الأسلوبية باستخدام الهارموني العصري، مما أتاح له تبني الواقعية في الأوبرا، كما في عمله "توسكا" الذي يعكس التناقضات الإنسانية.

اتّخذ مؤلف الأوبرا الإيطالي جياكومو بوتشيني (1858 - 1924) موقفاً لافتاً من المعاصرة مفهوماً وممارسةً. فقد تميّز بعنادٍ فنيّ، أبداه من خلال محافظته على التقاليد الأوبرالية، لكن في الوقت نفسه، أظهر انفتاحاً أسلوبيّاً في المعالجة والصياغة، وموضوعياً إزاء القضايا والمضامين التي تناولتها المسرحيّات الغنائية التي لحّنها.

لعل موقفه التوفيقي هذا قد أتى مسايرةً لروح عصره، عصر الانتقال من القرن التاسع عشر إلى العشرين، ومن الرومانسية إلى الحداثة، ثم ما بعدها. حينئذ، أخذت ذائقة جمالية جديدة في التشكَل، وإن لم تزل جذورها غائرة في الماضي، كما دعت الحاجة إلى نظرة مغايرة إلى العالم، سواء لدى أقطاب النخب أو بين أوساط الجمهور، تستجيب إلى التغيّرات الكبرى، التكنولوجية والجيوسياسية، وتنسجم مع مظاهرها المجتمعية والثقافية.   

ينطلق الموقف الجامع ما بين المحافظة والانفتاح من عاملين، هما هوية المؤلف الفردية، والهوية الثقافية التي حملها معه. ففي حين أخذت الموسيقى الكلاسيكية الغربية نهاية القرن التاسع عشر تبتعد تدريجياً عن المركزية اللحنية التي ميّزت كلاً من الحقبتين الفنيّتين الكلاسيكية المتأخرة والرومانسية المبكرة، تمسّك بوتشيني باللحن الغنائي كما لو كان فضيلة جماليّة. حرص على نقل شغفه بالصوت البشري إلى المستمع، مُقدّماً نفسه بوصفه مؤلفاً غنائيّاً بالفطرة والسليقة.

 

أما عند الحديث عن الهوية الثقافية، فلا يمكن إغفال "الفيل في الغرفة" كما يقال، ألا وهي إيطاليا، بلده، حيث ولد في مدينة لوكا (Lucca) على ضفاف نهر توسكا (Tosca) شمال غربي البلاد. البلد الأوروبي المُشرف على البحر المتوسط من جهة الشمال، معقل الغناء في الغرب، وصاحب الإرث الأقدم عهداً في الفنون الغنائية، كما أنه مهد للمسرح الغنائي منذ عصر الباروك، الذي يُدلّل عليه إلى اليوم بلفظة أوبرا باللغة الإيطالية.

لذا، كان قدر جياكومو بوتشيني موسيقياً أن يُجبَل بالنغم الحلو وأن تتجسّد شخصيته الفنية من خلال الألحان العذبة والشجيّة، ليوضع مشواره الموسيقي في خدمة فن بِل كانتو (Bel Canto) المصطلح الذي يعني بالإيطالية فن الغناء الجميل. 

بِل كانتو هو تقليد إيطالي عريق يجعل من الغناء أداةً تعبيرية مركزيّة عبر كلٍّ من التلحين والأداء، إذ جرت العادة عند تأليف المسرحية الغنائية أن ترد الأغنيات على شكل متتاليات من مقطوعات للصوت المنفرد بمصاحبة فرقة موسيقية أوركسترالية، تُرتّب بحسب السرعة، إذ غالباً ما ترد في البدء أغنية درامية بطيئة الحركة، تُدعى آريا، ثم تعقبها أخرى سريعة وحيوية تُسمّى كاباليتّا.

قد مثّلت الآريات والكاباليتّات التي كتبها جياكومو بوتشيني بالنسبة إلى المستمع جرعة شعورية عالية التأثير، أما بالنسبة إلى المؤدّين، من مغنيّات ومغنّين، فتُعدّ إلى الآن بمثابة امتحان مهنيّ فاصل، ليس فقط لصعوبتها التقنية، وإنما أيضاً للطاقة التعبيرية العالية التي تحملها. في كلتا الحالتين، لم يحِدِ المؤلف عن نهج العناية بجماليّات الغناء الأوبرالي، وإبداء حساسية عالية إزاء عذوبة اللحن.

أما انفتاحه على التطور الأسلوبي الذي ميّز عصره، فبان من طُرُق تركيبه الانسجامات النغمية، أي الهارموني، وهي بمثابة العمارة التي تُشيّد عليها الألحان. لأجلها، واكب بوتشيني أكثر النماذج الهارمونية عصرية، كالانتقالات المبنية على أنغام نافرة، والسلالم المكونة من أبعاد خماسية (Pentatonic) التي أصبحت عماد التأليف الموسيقي لدى أقطاب المدرسة التعبيرية أو الانطباعية أوّل القرن العشرين.  

لأجل تلك العمارة ذات البنى التحتية العصرية، اتّبع جياكومو بوتشيني نمطاً جديداً من سرديّات الأوبرا، سُمّي الواقعية، من اللفظة الإيطالية Verismo، وهو أسلوب كتابة دراميّ لنص المسرحية المُغنّى، انبثق عن حركة أدبية انتشرت في أوروبا زمن ما بعد الرومانسية منتصف القرن التاسع عشر.

حينئذ، فضّل الكتاب والفنانون التطرّق من خلال الرواية والتصوير إلى الحياة كما يعيشها الإنسان العادي، بما يكابده من آلام جسدية ونفسية، إذ تُوصف مشاهد لمن ليسوا فقط في قمة الهرم الاجتماعي، من آلهة وملوك وطبقة الأرستقراطيين، وإنما في قاعه أيضاً، من فقراء وكادحين وعبيد ومساكين.  

من بين تُحَف بوتشيني التي تقدّم تمثيلاً عن أوبرا الواقع، توسكا، وهي مسرحية غنائية دراميّة تحكي قصة علاقة غرامية بين مغنية أوبرا اسمها توسكا، ورسّامٍ حبسه حاكمٌ شرير، ثم عرض عليها مقايضة، يُطلق بموجبها سراحه، مقابل أن تُقدّم له خدماتٍ جنسية. تنتهي القصة بقتلها الحاكمَ الشريرَ قبل أن يتمكن من قضاء مآربه. 

تختزل الأغنية الأَشهر من أوبرا توسكا، المعنونة "أحيا لأجل الفن" (Vissi d'Arte)، سمات إرث بوتشيني الموسيقي والموقف ثنائي الأوجه الذي ميّز إرثه الفني إزاء كل من المحافظة والمعاصرة. فيها، تشكي توسكا، بطلة المسرحية الغنائية، إلى ربها الظلم الذي تعرضت له، لا لشيء سوى لإيمانها برسالتها بصفتها مغنية، والتمسّك باختيارها فناناً ليكون شريكَ حياتها، بدلاً من الخضوع لإغراء الثراء والنفوذ، والقبول بعرض الحاكم.

لأغنية "ڤيسّي دارته" وقعٌ درامي مُثير وقابض منذ انسياب خيطها اللحني الأول، مصوغاً وفقاً لنموذج السلم الخماسي. ما يزيد من تأثيرها من الناحية الأدائية، هو جعلها في المستوى الصوتي الخافت والضعيف، خصوصاً لدى دنوّ اللحن من منسوب القرار، إذ يُسمع صوت الحنجرة وقد احتقن بمشاعر الخوف واليأس والإحباط، ليضع الشخصية إزاء تناقضٍ إنسانيّ مع فعلها الجريء بقتلها مُبتزَّها. 

مع إبقائه على شجوّ اللحن وخفوته، وفي نفس الوقت مركزيته الدراميّة، يولي بوتشيني التصميم الموسيقي اهتماماً موازياً، فعند إحداثية الدقيقة 1:06 من مدة الأغنية، سينقلب الغناء من دور المنفرد إلى وظيفة المصاحب، إذ سيرافق الفرقة الأوركسترالية في عرضها اللحن الدال على إحدى الشخصيات أو الأحداث في المسرحيات الغنائية، أو ما يُصطلح عليه "اللحن القائد" (Leitmotif). بهذا، تتحول الآريا إلى حوارية بين البطلة والفرقة الموسيقية، كأن توسكا ههنا تناجي قدرها في لحظات من حياتها، قد تكون الأخيرة.

المساهمون