ربى الجمال: صوت مضى إلى نقيضه باكراً

16 ابريل 2025
رحلت في إبريل 2005 (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ربى الجمال، المغنية السورية، تركت بصمة قوية في الموسيقى العربية بصوتها السوبرانو المميز، وبدأت مسيرتها الفنية في سن مبكرة، محققة نجاحات في مهرجانات دولية وتعاونات مع ملحنين بارزين.
- رغم التحديات في سوريا، ظلت ربى رمزاً لقوة الصوت وجودة الأداء، خاصة في أغاني أم كلثوم وأسمهان، لكنها لم تحظَ بالدعم الكافي، مما أدى إلى تراجع نشاطها الفني.
- تعكس قصتها التحديات التي تواجه الفنانين في سوريا، حيث يسيطر النظام على المؤسسات الثقافية، مما يحد من حرية التعبير والإبداع، مع الحاجة لمنبر فني حر.

رغم رحيلها في سنة مبكرة، عن 39 عاماً (إبريل/نيسان 2005)، استطاعت المغنية السورية، ربى الجمال، أن تصل إلى مسامع الجمهور العربي العريض، وأن تنتزع تقييمات رفيعة منحتها إياها مهرجانات وشخصيات موسيقية عربية وعالمية، بخطوات كانت تبشر بولادة صوت ذي مستقبل مشرق. حين كانت الجمال في الـ13، اعتُمدت مغنيةً في إذاعتي بيروت ودمشق، وحصلت على المرتبة الأولى في مسابقة مهرجان ماريا كالاس بصوت السوبرانو الذي أقيم في باريس خلال فترة دراستها الطب هناك، ومن ثمّ انطلقت بقوة من على خشبة دار الأوبرا المصرية في عام 1995، إثر مشاركتها في مؤتمر الموسيقى العربية حينها، ولاحقاً في مهرجانات كثيرة، فلاقى صوت ربى الجمال ترحاباً شعبياً وأكاديمياً كبيراً، نسج لها تشبيكات مع فناني ذلك الوقت من مغنين وملحنين، ما أنتج أعمالاً مشتركة وتعاونات فنية، منها ألبوما "فاكر ولا ناسي" و"ليالي العمر"، وقصائد غنائية مثل "لماذا تخليت عني" و"لن أعود" و"لنا الأرض" و"عروس الشام".
عبر هذه الأعمال، قدّمت الفنانة نفسها للجمهور على يد أكثر من ملحن وبأكثر من نهج مدرسي، فمن خلال لحن وديع الصافي استطاعت طرح جزء من رشاقة وقدرة صوتها على التطريب بأسلوب يختلف عن أدائها للحن من سعيد قطب، وفاروق الشرنوبي أو صفوان بهلوان وغيرهم، إذ حاولت أن تستخدم كامل مساحة صوتها وجوانب حساسيته ضمن الأطر المتاحة والمطروحة في الساحة الفنية آنذاك.
على المستوى الجمهور في سورية، لا تزال ربى الجمال إلى يومنا هذا مدعاة للإشادة بقوة الصوت وجودة الأداء، خاصة لأغاني أم كلثوم وأسمهان، باعتبار أن صوت ربى الجمال يحمل خصائص من كلا المطربتين الكبيرتين، لدرجة أن هناك من يفضل أن يستمع من صوت الجمال لأغان كثيرة، منها "افرح يا قلبي" و"عودت عيني" و"الأطلال" و"رباعيات الخيام" و"الأمل" و"هو صحيح الهوى غلاب". يفضّل كثير من المستمعين هذه التسجيلات على التسجيل الأصلي بصوت أم كلثوم، وذلك وبحسب قول الناقد الموسيقي صميم الشريف، لأنها استطاعت الوصول إلى زوايا من اللحن لم تصلها أم كلثوم.
ومن يستمع إلى الفنانة تؤدي ألحان محمد عبد الوهاب، يدرك القدرة الجبارة على تقمص الأسلوبية المختلفة، من حيث إخراج الحالة المقامية ونوعية التكنيك المستخدم في التصويت والتعريب والنطق وتناول الجمل الموسيقية، فقد اجتمع في حيوية وقدرة صوتها وحساسية شخصيتها، ما مكنها من السيطرة على أدوات المغنى العربي بجدارة. أما الانطباع الآخر الذي يستحضره ذكر اسم ربى الجمال هو الحسرة على صوت لم يلق ما يستحقه من رعاية ودعم، بل تعرض إلى التهميش والإخفاء المتعمد، لتكتمل مأساوية ذكراها بقصة رحيل مؤثرة.
تمثّل الفترة الزمنية التي برزت فيها ربى الجمال، أي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، فترة انتقال سورية إلى دكتاتورية ستحكم البلاد لمدة أربعة وخمسين عاماً، شهدت خلالها البلاد أساليب حكم حرصت على إقصاء دور الأحزاب السياسية وملاحقة ومصادرة الآراء والحريات ونشر السلطة الأمنية، وصارت سورية ترزح تحت حكم عسكري أمني مستشر في أدق تفاصيل الدولة وحياة الناس. لعب هذا النظام الأمني على تسخير دور الإذاعة والتلفزيون والإعلام السوري، فيبث الفكر الأحادي القطيعي الذي لا يتدخل في شؤون الدولة ولا في سياساتها، الأمر الذي تطلّب عملاً مدروساً وممنهجاً أودى بهذه المؤسسات وكل من يتبع لها، ليكونوا تحت سلطة رجالات من الأمن والمخابرات، ومن المتنفذين من الجيش ورجال الدولة وحزب البعث. وهؤلاء هم من كانت أعناق وأرزاق الفنانين والمثقفين السوريين بأيديهم. وبالتالي، انتقل النشاط الفني الغنائي من مسرح عريق كمسرح معرض دمشق الدولي، الذي تجلت على منصته أقوى وأجمل الأصوات العربية والعالمية، إلى نوادي الضباط والنوادي الليلية، ولم يعد هناك أفق لأي فنان إلا ما يحدّده النظام، وأمسى مبنى الإذاعة والتلفزيون الذي شهد وأسهم بانطلاقة قامات فنية، مركزاً تتصارع ضمنه المحسوبيات وشبكات العلاقات، وكل ذلك تحت وطأة حصار اقتصادي شديد ذاق جرّاءه السوريون لوعة الفقر والجوع الشديدين.
تحت هذه الظروف، وقفت ربى الجمال في وجه عائلتها التي رفضت أن تدخل مجال الفن، ما كلفها كثيراً من المعاناة والاستنزاف المعنوي، وعلى جبهة أخرى كانت تتقاذفها أمزجة الفنانين الأميين ممن اعتُمدوا لإدارة نقابة الفنانين، والضباظ الذين يتحكمون بظهور أي فنان على خشبة المسرح. مقابل هذا التهميش، كان النظام السوري يعوّم نوعاً آخر من الأغنية، ونوعاً آخر من المغنين ممن شهدت ربى الجمال في آخر أيامها 2005 تصدّر أصواتهم للساحة الفنية، بعد أن أنتجتهم مسارح نوادي الضباط، وأصبح منصب نقيب الفنانين أقرب إلى المنصب الأمني منه للفني، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مدير دار الأسد قديماً (دار الأوبرا الآن)، وأيضاً مدير المعهد العالي للمسرح والموسيقى والرقص، الذين لا يمكن أن يتولاهما إلا من حصل على الثقة والرضا من القصر الجمهوري والجهاز المخابراتي.
ذبلت ربى الجمال ولم تستطع الاستمرار. موهبة أكبر من أن تعيش في قالب وتحت سقف يقزّم كل ما هو جدير ومتأصل في هوية سورية الثقافية والفنية، لذلك فالعمل على إحياء روح عملت على سحقها أعتى الأنظمة هو عمل مجهد، وبحاجة إلى الحفر والبحث في خصائص المجتمع السوري المتنوع، وهذا لا بد أن يكون مدعوماً بعمل مؤسساتي تقوم عليه وزارات الحكومة السورية، فالهوية الفنية جانب أساسي وعريق من حضور وشخصية سورية.

موسيقى
التحديثات الحية

ينطبق هذا الحال على شتى أنواع الفنون، خاصة بعد التهجير الذي عاشه السوريون، وأمست الحاجة ملحة إلى خلق منبر فني سوري حرّ يستوعب الطاقات الفنية السورية، التي أثبتت جدارتها عقودُ الإهمال والتجاهل وبعدها سنوات الحرب واللجوء والشتات.
فهل يأتي على السوريين وقت يلقى فيه فنان بسويّة ربى الجمال الرعاية والاهتمام في سورية؟ وهل سيستطيع الفنان السوري، أن ينطلق بحرية ويحقق الانتشار من دمشق، من دون أن يضطر إلى التطبيل للسلطات، أو إلى الإقامة في القاهرة أو في بيروت، كما حال جورج وسوف أو أصالة نصري أو صفوان بهلوان أو ميادة الحناوي، وقبلهم قائمة أسماء تطول حتى تصل إلى ما قبل أبي خليل القباني؟

المساهمون