استمع إلى الملخص
- أهمية السينما في توثيق الواقع الفلسطيني: يُعتبر المشروع توثيقاً بصرياً للواقع الفلسطيني، ويُعرض في مهرجانات دولية، مما يبرز دور السينما في نقل الواقع الفلسطيني بلغة مختلفة عن الإعلام التقليدي.
- فيلم "أحلام عابرة": يقدم رشيد مشهراوي في فيلمه "أحلام عابرة" قصة سامي، المراهق الذي يبحث عن حمامة، مما يعكس قدرة السينما على تقديم الرواية الفلسطينية بعمق وصدق.
في إعلانه موعداً جديداً لعرض "من المسافة صفر" (22 فيلماً قصيراً لـ22 شابة وشاب من غزة)، الذي يوثِّق يوميات عيشٍ في حرب إبادة إسرائيلية، يكتب رشيد مشهراوي (المشرف على المشروع برمّته)، بعد تحديده ذاك الموعد (15 مايو/أيار 2025، مبنى هيئة الأمم المتحدّة بنيويورك): "رغم خيبة الأمل من الجميع، وبما أنّ الجرح مفتوح، ليبقى الحوار مفتوحاً"، فهناك لقاء مع سفير فلسطين في الهيئة الدولية رياض منصور والمخرج الأميركي مايكل مور ومشهراوي نفسه (فيسبوك، 24 إبريل/نيسان 2025). المناسبة واضحةٌ: يوم النكبة، والعرض متأتٍّ أيضاً من أنّ هناك "نكبة جارية"، كما يكتب مشهراوي الذي له روائي طويل جديد بعنوان "أحلام عابرة" (2024، 79 دقيقة)، سيفتتح الدورة الـ15 (29 إبريل/نيسان ـ 5 مايو/أيار 2025) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)".
مع أنّ كلَّ كتابةٍ نقدية عن فيلمٍ يُفترض بها ألّا تتجاهل السينمائيّ فيه، إنْ يكن مضمونه مسألة حسّاسة ومهمّة، كحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية، يُمكن تحييد السينمائيّ، حالياً (هناك أكثر من مقالة نقدية في "العربي الجديد" عن الفيلم الجماعي هذا)، والتنبّه إلى أنّ "من المسافة صفر"، المعروض أولاً في "كانّ" الفرنسية، تزامناً مع الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجانها السينمائي الدولي، توثيقٌ بصريّ مباشر وواضح لراهن فلسطيني، يعاني حرب إبادة غير مسبوقة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (15 مايو/أيار 1948). والتنبّه أيضاً إلى أهمية الأمكنة التي يُعرض فيها، بدءاً من مهرجان "كانّ"، وصولاً إلى مبنى هيئة الأمم المتحدّة.
يُقال إنّ المُعاش واقعياً أصعب من أنْ يُختزل بصورة أو كلمة أو توثيق أو سرد شفهي. يُقال إنّ السينما، في سيرتها الطويلة، أعجز من أنْ تصنع انقلاباً في رأي جماعي، أو موقف/حراك جماعي (تأثيراتها على الفرد مختلفة عن هذا)، خاصة إنْ يُشاهِدَ أفلامَها ذوو سلطةٍ حاكمة، في السياسة والاقتصاد والإعلام مثلاً. لكنْ، في المقابل، يُقال إنّ أفلاماً سينمائية ـ تنقل الواقع بلغةٍ مختلفة عن تلك المستخدمة في إعلامٍ غربيّ وعربي، خاضع لمصالح وعلاقات وغايات ـ حاجة أخلاقية مُلحّة، على الأقلّ. نقل الواقع هذا، بصرف النظر عن قيمه السينمائية، أهمّ من كل تقرير إخباري مرئي، وأصدق من كل ريبورتاج تلفزيوني. دليلٌ إضافيّ على ذلك؟ أفلام "من المسافة صفر"، التي تلتقط نبض حياة معطوبة، لكنّها مثابرة على عيشٍ وإنْ بأبسط المتوفّر.
المتوفّر سينمائياً في قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، متمكّن من إنجاز 22 فيلماً قصيراً، يندر العثور فيها على نقيض الألم والخراب والقهر. الندرة منعكسةٌ في No لهَنَا عوض، الباحثة عن فرح لكونها ضد البشاعة واليأس، والفرح عندها متمثّل بشباب موسيقيين في غزة، تلتقيهم وتُصوّرهم وتُغنّي معهم. الندرة نفسها مفهومةٌ، فالحاصل في غزة غير موصوفٍ بل مُعاش، والأفلام كلّها تبدو كأنّها "تتنافس" في كيفية إظهار كلّ هذا الخراب، في الذات والروح والعمارة والجغرافيا، وأصناف العيش اليومي. كريم سطوم يستيقظ ذات صباح، فيجد نفسه في كفن، ويحاول تذكّر الحاصل معه (جنة الجحيم). هناك من يمضي وقتاً طويلاً تحت الأنقاض، ومن يبحث عن حبيبٍ أو قريب بين الركام، ومن يبكي حبيبةً مقتولة بقصفٍ، ومن يبحث عن ماءٍ، ومن يتخيّل رقصاً يستعيد ميراثاً من الفولكلور الفلسطيني.
الحكايات كثيرة، والمقصود بالعنوان الفرعي للفيلم الجماعي، "قصص غير محكية من غزة"، يؤكّد أنّ رواية السينما تختلف كلّياً (وأحياناً تتناقض) عمّا ترويه وسائل بصرية سمعية أخرى. لكنْ، لرشيد مشهراوي حكاية خاصة به، يرويها في "أحلام عابرة"، بعيداً عن صخب الموت وقسوة الأمل في غزة: سامي (عادل أبو عياش)، مُراهقٌ (12 عاماً) يُقيم مع والدته بشرى (منال ديب)، يريد استعادة حمامة أهداها له خاله كمال (أشرف برهوم)، تختفي منذ أيامٍ، بعد نحو أسبوعين من حصوله عليها. هذا دافعٌ إلى رحلةٍ في جغرافيا فلسطينية (مخيم قلنديا، بيت لحم، القدس القديمة، حيفا)، ستكون نوعاً من كشفٍ تدريجي لمسائل عائلية مرتبطة بمناخ عامٍ.
كعادته في سرد وقائع فلسطينية، يستخدم رشيد مشهراوي (أقلّه في أفلامٍ قليلة سابقة على هذا الجديد) سلاسة بصرية تمنح المتلقّي، غالباً، مساحة واسعة لمتابعة المروي. النواة الدرامية، أي البحث عن الحمامة رفقة الخال وابنته ميريام (إيميليا المصو)، متوافقة (إلى حدّ ما) والمعنى السينمائي لـ"أفلام الطريق"، ومهتمّة أساساً بحالات فردية، تنكشف في تلك الرحلة، والشخصيّ مفتوح على العام: والد سامي معتقل منذ أعوام، ما يستدعي خصاماً كبيراً بين بشرى وشقيقها كمال الذي يُفترض به "تهريبه"، لكنّه تأخّر بسبب عطل في السيارة، "ربما" تكون ميريام مسؤولة عنه.
ذكر هذا لن يحول دون متابعة هادئة لـ"مسار عائلي"، يُقدّم فيه أشرف برهوم أحد أداءاته الجميلة، المازجة حِرفية مهنية بعفوية بشرية في التعامل مع أمور العيش والعائلة والعلاقات والبلد والصُّحبة والتجارة (تماثيل دينية مسيحية لبيعها للسيّاح).
يجهد رشيد مشهراوي في تقديم شيءٍ من الرواية الفلسطينية، الخاصة بالواقع الفلسطيني. يريد للسينما أنْ تروي، وهذا ضروري ومهمّ، إنْ تكن السينما سينمائية، أمْ توثيق ميداني يتمرّن على التقاطه شباب وشابات غزاويون.