استمع إلى الملخص
- فيلم "سعيد أفندي" للعراقي كاميران حسني يُعد مثالاً بارزاً على السينما الواقعية الجديدة، حيث يمزج بين الواقعية والميلودراما الشعبية، ويُعالج قضايا اجتماعية وسياسية معاصرة، مما يجعله عملاً محورياً في تاريخ السينما العراقية.
- يُقدم "سعيد أفندي" بورتريه حيوي للمجتمع العراقي بعد الحرب العالمية الثانية، مُستعرضاً التغيرات الاجتماعية والسياسية، ويُعتبر وثيقة تاريخية تُظهر بغداد في مرحلة إعادة الإعمار.
تستقبل الغالبية العظمى من عشاق السينما، والمطّلعين على صناعتها، إذا كانوا في مهرجان "كانّ"، أو يتابعونه من بعيد، هذا النجم أو ذاك، وهو يمشي على السجادة الحمراء، مرتدياً ثوباً خاطته أفضل دور الأزياء. ما إنْ تخفّ حماسته للأيقونة الحيّة، حتى ينتقل الجمهور إلى عنوان في البرنامج، يتراجع تدريجياً في صميم النقاش، وهذا لا بدّ من التفكير به، بموضوعية، في السنوات المقبلة، لأنّه سيكون حاسماً في مصير السينما كما عُرفت في الـ130 عاماً الماضية.
قادمٌ من الأفق الأقرب، أي من الغرب. لا جديد تحت الشمس، كما تبيّن الأيام، بل على العكس، يكتسب الميل درجة أكبر من التصلّب. كلّ هذا صحيح. مع ذلك، وربما بسبب ما سبق تحديداً، أهمية قسم مثل "كلاسيكيات كانّ" مؤكّدة (ينبغي إعادة النظر في فكرة انتشار الرقمنة على نطاق واسع، خصوصاً بعد إزاحتها السينما عن عرشها، حتى بالنسبة إلى أفلام الماضي). في "الكروازيت"، إلى جانب عناوين معروفة بلا شكّ حتى لمن لديهم فكرة عامة عن السينما، تعود اقتراحات سينمائية مفقودة إلى الحياة. أعمال ضاربة في الزمن السينمائي، يصعب التعامل معها حتى على أكثر الخبراء خبرة. إذْ يُعثر، في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025)، على "باري ليندون" (1975) لستانلي كوبريك، و"أحدهم طار فوق عشّ الوقواق" (1975) لميلوش فورمان.
مع الترحيب بإعادة اكتشاف سينما جورج شيرمان، بفضل عرض فيلمي "الوادي الأحمر" (1949) و"إقليم الكومانشي" (1950)، اللذين قدّمهما كونتين تارانتينو، فإنّ استخراج أعمال مثل "الأجر" (1962) للكولومبي سيرو دوران، وأكثر من ذلك "سعيد أفندي" (1957) للعراقي كاميران حسني، يبدو أكثر استحقاقاً للثناء.
نعم، "استخراج". إذ يلائم المصطلح حالة الهَجر التي واجهتها فكرة معيّنة عن السينما، على مرّ عقود سابقة لما يُسمّى "السينما الثالثة"، التي سعت إلى تحرير النظرة والإيقاع من دون تجاهل الاضطرابات الجارية حتى في أغنى بقاع العالم. مثلاً: عند مشاهدة "سعيد أفندي"، يُلاحظ المرء كيف أنّ التجربة الواقعية الجديدة تطبع بعمق أعمال حسني، الراحل عن 77 عاماً قبل 21 سنة (1927 ـ 2004)، من دون أن يُثير هذا دهشة أحد.
مع ذلك، لا يتعلّق الأمر بمحاكاة عمياء، أو مجرّد اكتفاء بـ"حقيقة/واقعية" مزعومة، تُعزى إلى التصوير الخارجي في الشارع، أو عدم احترافية بعض الممثلين. بل على العكس تماماً. في هذا العمل المُعقّد، الذي يُفكّر في السؤال الأخلاقي من دون إغفال البحث السياسي في عصره أو طموحاته السردية، يغوص حسني في صميم بنية الواقعية الجديدة النابضة، وفي روحها السياسية الصريحة، التي تجمع بين توتّر لا ينضب تجاه بناء الصورة، و"احترامها"، وحاجات السرد للتحدّث بلغة الناس، فيُدركونها من دون إجبار.
بهذا المعنى، يمتلك "سعيد أفندي"، المقتبس من قصّة "شجار" (1955) لإدمون صبري، قوة ثورية حقيقية. فمن جهة، يتناول بعض جوانب السينما التجارية التي أنتجها العراق قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي استوحت جوهرياً مواضيع الإنتاجات المصرية السائدة وألوانها، واختارت غالباً ممثلين من القاهرة. لكنه، من جهة أخرى، يُصرّ بقوة على تلك الرؤية الشخصية المنفصلة عن التبعية لجماليات الفيلم المصري.
لم يكن أول فيلم عراقي يفعل ذلك. فمنذ السنوات المضطربة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (مع إضراباتٍ حجبت مركزاً حيوياً للحياة الوطنية مثل كركوك)، كان هذا التوجّهَ الرئيسي للإنتاج العراقي، كما مع "فتنة وحسن" (1953) لحيدر العمر، أو "من المسؤول" (1956) لعبد الجبار ولي. لكنْ، لا شكّ أنّ التوازن المثالي، الذي يتحرّك فيه "سعيد أفندي"، يُمثّل تحوّلاً تصاعدياً يجعله عملاً محورياً، بدمجه أسلوب الواقعية الجديدة بالميلودراما الشعبية الشائعة عربياً، مع تأمّلٍ في تغيّرات مجتمعية، لا يغفل المنظور الأخلاقي ولا السياق السياسي ـ الاقتصادي.
بعيداً عن المعضلة الأخلاقية للبطل، التي تدور حولها القصّة كلّها (كيف يُربّي المرء أطفاله، وفي الوقت نفسه يُدير وضعاً متفجّراً في العلاقات مع الجيران، من دون الحاجة إلى اللجوء إلى العنف، وبالتالي "بناء" أمّة جديدة)، "سعيد أفندي" لافتٌ للانتباه، ومثير للتأمّل، حتى بعد مرور نحو 70 عاماً على إنجازه، بسبب الإخراج الحيّ، الشبيه بالوثائقي تقريباً، للأحياء العمّالية في بغداد الجديدة، تلك المدينة الخاضعة آنذاك لإعادة إعمار، والتي على وشك أن تشهد ثورة جديدة، أولاً انقلاب "14 يوليو 1958"، ثم انقلاب "8 فبراير 1963" الذي سيجلب إلى السلطة حزب البعث، القائمة أيديولوجيته على خليط من القومية والوحدة العربية والاشتراكية ومعاداة الإمبريالية.
هنا، يتحوّل "سعيد أفندي"، ذلك الأوبريت الأخلاقي المنطلق من خلافات بين الأطفال لمحاولة استكشاف الديناميكيات الاجتماعية في "الثورة"، إلى بورتريه ثابت لأمّة ناهضة، قادرة على سرد قصتها بطريقة مستقلّة تماماً، والسعي إلى مسارها التعبيري الخاصّ، الذي لا يخشى سرد أحلك الجوانب، وأقلّها استحقاقاً للثناء في بنيتها الاجتماعية.