"قَبِل ما يوصلو" لأشرف مطاوع: سلاسة سردٍ تروي حكاية ناسٍ وبلد
استمع إلى الملخص
- يركز الفيلم على بيئة شبه ريفية، ويستخدم المنزل كمكان وحيد للأحداث، مما يعكس الطبقة الوسطى والتوترات الأمنية والاجتماعية المحيطة.
- الأداء التمثيلي لنسيم بنّا وتمارا حاوي يتميز بالبساطة والعفوية، ويعكس بصدق واقع الحياة اللبنانية، مع التركيز على الانفعالات والمشاعر المكبوتة.
لقاء "سرّي" (خشية الجيرة والمجتمع والبيئة والأهل) بين عاشقين، في منزل العاشق، يكشف أحوالاً فردية (وجماعية ضمناً)، لن يحول شيءٌ دون تعرّضها لارتباكات الخارج (هذا لا يعني "حرق" الحكاية، فما بعد هذا أهمّ سينمائياً وواقعياً). فالخارج، غير المُصوَّر كثيراً، طاغٍ، عبر شاشة تلفزيونية، أو أصوات رصاص وصراخ، أو لقطات عُلويّة تكفي لتبيان بيئة شبه ريفية، أو لنقل إنّها خارج المدينة.
والمنزل يوحي بأنّ القاطنين فيه منتمون إلى طبقة وسطى، أو ما يُشبهها، إنْ يكن هناك طبقة وسطى في بلدٍ كلبنان، مُقيم في انهيار اقتصادي ـ اجتماعي خانق، وارتباكات أمنية يعكسها صوت إطلاق الرصاص ذاك. أمّا العائلة، المُقيمة في المنزل، فلن يظهر منها فردٌ واحد، باستثناء الابن العاشق، والأم لدقائق سريعة.
هذا كلّه، وغيره أيضاً، يُقدّمه أشرف مطاوع في "قَبِل ما يوصلو" (قَبَل أنْ يصلوا)، الذي سيُعرض في مسابقة الأفلام الطويلة، في الدورة 12 (18 ـ 24 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان طرابلس للأفلام"، والذي يكتفي بمكان واحد (المنزل بغرفه القليلة) وبزمان واحد (بضع ساعات قبل أنْ يعود والدا الابن العاشق من القرية، اللذان يذهبان إليها صباحاً إثر وفاة جدّه). هذا الاكتفاء، وإنْ يكن سببُه قلة الميزانية، صعبٌ اشتغاله سينمائياً، وباهرٌ إنْ يكن اشتغاله مكثّفاً ومختزلاً ومنفضّاً عن كلّ ثرثرة، كلامية وبصرية. وهذا حاصلٌ.
"قَبِل ما يوصلو" مشغولٌ باتقان من يجهد في تكثيف حكاية وصورة وحوارات، وفي اختزال مشاعر وعلاقات وأحوال، بدءاً من "علاقة الحب" بين سامر (نسيم بنّا) ورنا (تمارا حاوي)، المطلّقة والخائفة من فقدان ابنتها بسبب طلاقها وعلاقتها هذه. تلك العلاقة أساس الحكاية كلّها، فلا مكان خاص لهما، وأوقات لقاءاتهما دونها عوائق اجتماعية كثيرة، مع أنّ الحب بينهما فاعلٌ، رغم اضطرابات يُظهرها النص (كتابة مطاوع) بسلاسة حكّاء مهموم، في الوقت نفسه، بإيجاد المُعادل البصري لما يعيشه العاشقان، وللبيئة المحيطة بهما، التي تتسلّل إلى "عالمهما"، المهتزّ أصلاً.
غير أنّ خروج الزعيم السياسي (جورج كعدي)، الصارخ بجمهوره في احتفال انتخابي كما يبدو، من الشاشة إلى غرفة الجلوس حيث العاشقان وخلافاتٍ بينهما تطفو في واجهة اللحظة، واختلاط الخيال اللاخيالي، إنْ يصحّ التعبير، بالواقع، لم يكن (الخروج) موفّقاً درامياً، مع أنّ فكرته واضحة: طغيان البؤس السياسي إلى حدّ استيلائه على حميمية علاقة عاطفية، مرتبكة رغم جمالها. في المقابل، تُضيف ثلاث شخصيات لمسات درامية جمالية إلى سياق السرد، فظهورها القليل، بين حين وآخر، انعكاس لحالات فردية/جماعية واقعية، تخترق هذه الحميمية، أيضاً، بما فيها من اضطراب وقلق ورغبة مكبوتة وانهيار، بينما داني (سلام الأعور) امتدادٌ لصديقه/جاره سامر، أو أحد جوانبه الغارقة في شقاء جيل شبابيّ يعاني أهوال بلدٍ وبيئة وعائلةٍ، والأخيرة مفكّكةٌ وفق مرويّات سامر، كما البلد والبيئة في مرويّاته نفسها.
في النصّ، تفكير وتأمّل في أحوال أفراد وبيئة، بعيداً عن ثرثرة وخطابية، لشدّة واقعيتها، وبساطة قولها وعفويته، اللذين (البساطة والعفوية) ينكشفان في أداءٍ غير مُتكلّف وغير مُدّع لنسيم بنّا وتمارا حاوي، في مشاهد عدّة، أبرزها مشهد المواجهة بين سامر ورنا، المحمّل بثقل خراب وتفكّك وانكسار وسلوك، وبأحلام مجهضة ورغبات مكبوتة بشدّة. هذا كلّه حاضرٌ، بقوّة، في الاجتماع اللبناني، بما فيه من اهتراء وتشاوفٍ وعمى وعنف مبطّن، ينفجر (العنف) بين حين وآخر بأشكال مختلفة، ظاهرة أحياناً (سامر غالباً) ومُبطّنة من دون انكفاء تامٍ عن الظهور (رنا).
تفاصيل عدّة تظهر في لقطات، يُفترض بها أنْ تكون عابرة، فإذْ بعبورها يقول أشياء كثيرة عما يعتمل في نفوسٍ وانفعالات، في بلدٍ مُصاب بأعطاب جمّة. والقول هذا يتبيّن بنظرة أو حركة، كلّ منهما كفيلٌ بكشف حجم خرابٍ ذاتيّ، وعفن جماعي.
مع أنّ هناك إمكانية عدم التورّط بتحليلٍ نقديّ لانعكاساتٍ ومُبطّن، فالمُشاهدة كافية وممتعة (رغم لقطات تطول مدّتها، والأفضل اقتطاعها، خاصة تلك المتعلّقة بفقرات "الزعيم" والمتخيّل فيها)، من دون تحليل كثير. هذا صعبٌ، ففي "قَبِل ما يوصلو" انعكاسٌ لجوانب حياتية في البلد وبيئاته، وفي تفكير فردي/جماعي إزاء معضلات ويوميات ومشاعر.