"هرتلة في القاهرة"... عندما عُكست حركة الحياة

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 07:15 (توقيت القدس)
أنجزت الفيلم المخرجة فرح الهاشم (صفحة الفنانة على فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الهرتلة كظاهرة ثقافية: تتجاوز الهرتلة في السياق المصري مجرد الثرثرة لتشمل الهذيان والارتجال، وتعكس الفشل في استكمال اللحظات النافعة للحياة، وتظهر في مجالات متعددة مثل العمارة والإبداع والأخلاق.

- فيلم "هرتلة في القاهرة": يقدم الفيلم نظرة نوستالجية على القاهرة والإسكندرية، حيث تُصور الهرتلة كفعل اجتماعي واقعي، ويسعى لتجميل العطب الذي أصاب الأزمنة الجميلة في الماضي من خلال لقطات ذكية.

- الرسائل الثقافية والاجتماعية: يعج الفيلم بشهادات عن القاهرة والإسكندرية، ويبرز حب المدينتين رغم الخيبة، ويسلط الضوء على شخصيات مثل الشيخ إمام وسيد درويش كرموز للحداثة، ويطرح تساؤلات حول تأثير عدم استكمال مسيرتهم.

الهرتلة، بالعامية المصرية، تعني الثرثرة الفارغة، لكنّها تعني الكثير أيضاً: الهذيان والارتجال والخفة وعدم الأهمية. إنّها في الواقع عكس الأناقة، بالمعنى التعبيري. كما تعني الفشل في الارتقاء إلى استكمال اللحظة الخيرية النافعة للحياة، وفي الوقت نفسه تعكس البناء الثقافي للعصر، فيمكن أن يكون هناك هرتلة معمارية، أو إبداعية، أو أخلاقية. بهذا، تبدو الهرتلة، بمعناها الواسع، نتاج فعل فاعل، أسّس لها في الواقع الاجتماعي، بوصفها أخطاء استراتيجية لاقت نتائجها. والحاضر ابن الماضي.
سترافقك هذه التفسيرات ـ التساؤلات في كلّ مشاهدتك "هرتلة في القاهرة" لفرح الهاشم، في محاولة لأخذ الموضوع جدّياً. ففي المقام الأخير، الهرتلة فعل اجتماعي واقعي، إلى درجة يُمكن معها تصويره وإعداده بلغة بصرية مرافقة، تترجمه وقائع محسوسة على الأرض.
يمكن النظر إلى شريط الهاشم على أنه نوستالجيا أنثروبولوجية، تنظر إلى القاهرة (والإسكندرية بعض الشيء) بعين مُركّبة خالية من التبسيط، رغم ادّعائها رؤية الأمور كما هي. لكنّ انتقاءها الأحاديث والأمكنة، ومحتوى اللقطات، يقود إلى منطقة أعمق من الصورة الفوتوغرافية، ليصبح المكان حدثاً، والأقاويل مؤثّرة تأسيسية في توجيه اللغة والكلام إلى حيث الأمان، في محاولات لتجميل العطب، الذي أودى بحياة تلك الأزمنة الجميلة في الخمسينيات الماضية، مع الأفلام والموسيقى، وحوّلها إلى هرتلة الحاضر الذي يُعبَّر عنه شفاهياً، وربما بلقطتين ذكيتين للغاية: عندما عكست حركة الحياة (المشي، السيارات، كل المتحرّك)، كأن الناس والأشياء لا يريدون الذهاب بطريق صحيح. ولقطة نافذة سيارة تتجاوز سيارات أخرى في الطريق، لتبدو تلك الأخرى كأنّها تتراجع إلى الخلف.
هنا، يبدأ المشاهد بتغيير منطق الرؤية. فمن شريط نوستالجي، يعلن انحيازه إلى حب مصر (القاهرة، الإسكندرية)، إلى باحث أنثروبولوجي، يُقيّم الأحوال ويسائلها، عبر عودات موفّقة إلى الماضي، بالشرح المباشر (لقطة المرشدة السياحية) الذي يُسخّن ذاكرة السينما المصرية، أو بالخيال، بذهاب الهاشم إلى الماضي، ولقاء فريد الأطرش، الذي يحضر لها هدية أيضاً، ويغنّي لها أغنية، كأنّها بطلة فيلم غنائي في الخمسينيات نفسها.
يعجّ الفيلم بالإلقاءات الشفوية، كأنّنا في "توك شو" من تلفزيون الواقع: آراء، تعريفات، تخمينات، شرح، من كل وادٍ عصا. أشخاص يقدّمون شهاداتهم بمدينتهم، شرط ألّا ينسوا تفاخرهم بها، رغم سردهم ما آلت إليه. فالنّيات تغفر ما دون النقد، وتقبل الانتقاد. كأنّهم يقولون: نحن نعلم ما بها مدينتنا ومجتمعنا، وما نقوله يصبّ في سياق إصلاح مصر، بعد الاحتكام إلى حبها، وحسم غايات التمنّي أنْ تكون أحسن بكثير مما هي عليه الآن.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

في هذا السياق الشفهي (الهرتلي)، تأخذنا الكاميرا إلى سياقات بصرية طريفة وشديدة التعبير: إقفال بوفيه السعادة، منشور على الجدار يدعو إلى عدم الحركة، القعود في المكان، إلخ. هذا بالتفصيل، أما بالتعميم، فالشريط يمور بلقطات للقاهرة وأهلها، كأنّها لقطات مأثورة في ما يخص غريباً مُحبّاً، لكن بتفسيرها تذهب بالمشاهد إلى معاني الخيبة والندم، كأنّها تقول كان يُمكن أن نتفادى ذلك، أو أن يكون أجود مما نراه. هنا، تنعطف الهاشم إلى السرّ الكبير الذي تكتنهه القاهرة (والإسكندرية إلى حدّ ما)، ما يجعلها محبوبة إلى درجة تُشبه الهيام، مُعلنة بذلك غرامها بالقاهرة، المدينة التي لا تكتمل إلّا بسرّها الذي يعلمه الجميع، لكنّهم عاجزون عن اكتشافه.
الشيخ إمام وسيد درويش وفريد الأطرش وعبد الحليم وشادية وغيرهم، شهادة على الوجه المضيء للقاهرة، ولمصر عامة. واضح أنّ فرح الهاشم تقصد الحداثة، وإلا فلا داعي لذكرهم، طالما أنّهم من المنتجات الاعتيادية لمجتمع كالمجتمع القاهري. فهؤلاء مثّلوا وتمثّلوا أطوار الحداثة التي تحتاج إليها كلّ البلدان والمجتمعات.

ربما يكون هذا السرّ الذي قبضت عليه الهاشم بالجرم المشهود، كأنّها تسائلهم: لماذا لم تُكملوا مشواركم؟ أو لماذا وضعتم فينا كلّ هذه القيم، وتركتمونا نهرتل على حافَات الفاقة الثقافية، الكامنة خلف السلوك الاجتماعي الهرتلي؟ كما تُلاحظ مآل منزل سيد درويش في الإسكندرية، كأنّه هرتلة عن منتجاته الموسيقية، التي غرقت في جمالها ولم ينقذها أحد.
لم يضف ظهور الهاشم إلى "هرتلة في القاهرة" شيئاً ذا قيمة خاصة. ربما ظروف الفيلم اقتضت ذلك، لكنّها، في أي حال، ظروف غير فنية، ركبت حملاً لا لزوم له على كاهل شريط بصري، غير واضح الإيقاع، بسبب اللقطات المُطوّلة التي كان يُمكن تكثيفها. ربما هذا مقصود، لاستطراد الهرتلة ونقلها إلى المشهد البصري. فصانعة الفيلم لم تستخف بالهرتلة، بل جعلتها بمقام فعل اجتماعي لا يليق، لكنّه موجود وغير جزافي، بل مؤصّل له أداءً بشريّاً مبنيّاً على أسس واقعية، ماضياً وحاضراً، وربما يكون أساسياً بوصفه منتجاً اجتماعياً لا تغفله العين.
 

المساهمون